د.سالم الكتبي
قال وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي مؤخراً إن الاستمرار في دعم أوكرانيا بات أمراً «صعباً ومؤلماً»، ولكنه أشار إلى أنه إذا لم يستمر الحلفاء في دعم نظام كييف فسيزداد الوضع في العالم سوءً، وقال «إذا تراجعنا سيكون الأمر أصعب وأكثر إيلاماً»، وأقر الوزير البريطاني بأن المعاناة من حرب أوكرانيا باتت تمثل «مشكلة كبيرة». هذا التصريح المهم لا يكشف عن حقيقة جديدة، بل يمثل إعلاناً رسمياً ليس الأول من نوعه عن انعكاسات الحرب وتداعياتها على الدول الغربية. هذا الواقع تعكسه العراقيل التي باتت تواجه مواصلة دعم أوكرانيا في العواصم الغربية؛ فعلى سبيل المثال لم يحصل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي خلال زيارته مؤخراً للولايات المتحدة سوى على دعم عسكري يقدر بنحو 325 مليون دولار من البيت الأبيض، فيما كان يأمل الحصول على جزء كبير من دعم أمريكي بقيمة 24 مليار دولار لا يزال يتعثر داخل أروقة الكونجرس بسبب الخلاف حول الميزانية، وقد يواجه هذا الدعم تجميداً كاملاً مؤقتاً.
التحديات السياسية تتزايد وتحول دون مواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا بالطريقة ذاتها التي بدأ بها الأمر، والسبب الأساسي في ذلك هو تفاقم التضخم والأعباء المعيشية الناجمة عن الظروف التي تسببت فيها الحرب، والأهم من ذلك هو غياب أي أفق لهذه الحرب سواء بتحقيق نصر أو حتى تقدم نوعي عسكري لأوكرانيا فيها، أو بقرب التوصل إلى تسوية سياسية تنهي هذه الأزمة. لا يجب أن ننسى أن كييف تورطت أيضاً في خصومة مع أحد أبرز داعميها، بولندا، بسبب أزمة الحبوب الأوكرانية، حيث دفع الحظر البولندي على واردات الحبوب إلى توجيه زيلينسكي اتهامات لبولندا التي كانت تستشعر بالأساس عدم تقدير أوكراني لدعمها ومواقفها منذ بداية الحرب، ما دفع الرئيس أندريه دودا إلى اتهام أوكرانيا بأنها مثل «الشخص الغريق الذي يمكن أن يجرك معه إلى القاع».
ثمة عامل مهم آخر يؤثر سلباً في استمرار الدعم لأوكرانيا بالوتيرة والزخم ذاته، وهو الانتخابات التي اقتربت في دول عدة منها بولندا نفسها، حيث لعبت مصالح المزارعين دوراً مؤثراً في تمديد حظر واردات الحبوب الأوكرانية، وكذلك الحال بالنسبة لسلوفاكيا أيضاً، حيث تمثل القضايا الداخلية ورقة انتخابية مهمة. العامل الانتخابي يلعب دوراً مؤثراً كذلك في المملكة المتحدة التي تشهد انتخابات في العام المقبل، وكذلك الأمر في الولايات المتحدة، حيث يناور الجمهوريون بورقة دعم أوكرانيا للنيل من سياسات الرئيس بايدن.
المعضلة التي تواجه الحكومات الغربية وأوكرانيا معاً تتمثل في جانب منها في إقناع الناخبين بأن الأمر لا يتعلق بنزاع أوكراني ـ روسي، بل بالدفاع عن الشعوب الأوروبية وحماية مصالحها ضد تهديد روسي محتمل ـ من وجهة نظر العواصم الغربية ـ وأن هناك جانباً أخلاقياً يجب على الجميع تحمل تكاليفه، ولكن تأثيرات هذه الخطاب تبدو متفاوتة لدى شعوب الدول الغربية، ولا سيما أن عامل الوقت يلعب دوراً مهماً في تغير المواقف الشعبية والمزاج العام، الداعم للحرب والذي بات يتآكل حتى في داخل أوكرانيا نفسها.
في ألمانيا على سبيل المثال، هناك صعود سياسي لليمين المتطرف يؤجج المشاعر المتزايدة ضد الحرب في أوكرانيا، كما أن هناك شعوراً متزايداً بين الألمان بأن العقوبات المفروضة على روسيا تضر بمصالح بلادهم، وقد اعترفت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك بأن معظم الألمان يتساءلون عن جدوى دعم حكومتهم لأوكرانيا. وقالت في تصريح صحفي: «يطرح الكثير من الناس في الولايات المتحدة هذا السؤال: «أوكرانيا بعيدة عنا تماما، فما سبب أهميتها بالنسبة لنا؟» وهذا صحيح ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن أيضا هنا في ألمانيا»، تكشف بعض استطلاعات الرأي أن نصف الألمان يرون أن العقوبات تضر ألمانيا أكثر من روسيا، وهناك انقسام حاد حول إرسال عتاد عسكري ثقيل لأوكرانيا. بجانب ما سبق هناك تحولات سلبية في اتجاهات الرأي العام في بعض الدول الأوروبية، حيث تتزايد الشكوك حول دوافع الحرب ومجرياتها في دول مثل المجر وسلوفاكيا وبلغاريا.
رسمياً، هناك توجه أوروبي وغربي معلن بضرورة مواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا، حيث أعلن قادة الاتحاد الأوروبي خلال قمة لهم في بروكسل في شهر يونيو الماضي أنهم سيقدمون التزامات طويلة الأمد لتعزيز أمن أوكرانيا، وأشار مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد جوزيب بوريل إلى أن «الدعم العسكري لأوكرانيا يتعين أن يكون طويل الأمد»، رغم الشكوك التي يعلنها بعض قادة دول الاتحاد الأوروبي مثل رئيس الوزراء الروماني، مارسيل سيولاكو، الذي دعا إلى التفكير في الخطوات التي ينبغي القيام بها في حال انتصار روسيا في الصراع في أوكرانيا، كذلك رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الذي صرح في نهاية أغسطس، بأن أوكرانيا لن تكون قادرة على هزيمة روسيا، بجانب أن الولايات المتحدة لن تتخلى تماماً عن دعم أوكرانيا بعد كل هذا الدعم المالي والعسكري الذي قدمته لكييف، ولكن من الوارد الدفع باتجاه البحث عن تسوية سياسية للأزمة في حال وصول رئيس جمهوري للبيت الأبيض مع استمرار النزاع.
شعبياً، من المهم ملاحظة أن هناك معضلة حقيقية في أن يستمر التوافق القائم بين الدول الغربية على فكرة دعم أوكرانيا، فالتململ الحاصل، والذي ينمو تدريجياً، قد يصل إلى حد التعارض بين مصالح بعض الدول ومواقفها الداخلية من جهة ومواصلة دعم أوكرانيا من جهة ثانية، وفي هذه الحالة يصبح تماسك كتلة دولية مثل الاتحاد الأوروبي على المحك، كما قد يصبح التحالف الأوروبي ـ الأمريكي مهدداً هو الآخر حيث تزداد الصعوبات حول كيفية المواءمة بين اتجاهات الرأي العام من ناحية ودعم أوكرانيا من ناحية ثانية، لا سيما إذا استمر الوضع العسكري من دون تقدم نوعي لأوكرانيا، ناهيك عن احتمالية نجاح روسيا في صد الهجوم الأوكراني وقلب موازين المعركة والسيطرة على المزيد من الأراضي الأوكرانية.