أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
إن مراجعة شاملة للإطار المفاهيمي لاستخدامات النماذج في العلوم الإنسانية تؤكّد عمق اهتمام رواد هذه العلوم بمبدأ التراكيب النماذجية وصيغ المحاكاة الراجعة بين الثقافتين الطبيعية والإنسانية. فوظّفت العلوم الإنسانية انطلاقاً من ذلك المبدأ نماذج الإحصاء الوصفي، والاستدلالي غير الخطية والخطية التي تشمل على سبيل المثال لا الحصر معاملات الارتباط، وخطوط الانحدار الثنائي والمتعدد والمرتجعي والتلقائي والسلاسل الزمنية بمختلف اتجاهاتها النزوعية وأسطحها العديدة الأنماط بيانياً. ويعد أستاذي الجليل الأريب الأكاديمي العالم العلم الأستاذ الدكتور أسعد بن سليمان عبده أستاذ جغرافية النقل بجامعة الملك سعود سابقاً أول جغرافي سعودي وظف في رسالته للدكتوراه عن النقل في المملكة العربية السعودية تراكيب النمذجة العددية الكمية وصيغ المحاكاة الراجعة لنماذج الشبكات الرياضية، والاتجاهات النزوعية لأسطح المعادلات الإحصائية المتعددة الأنماط بيانياً. ومن الجدير بالذكر فقد وظف سعادته تلك الأساليب الكمية والعددية الآنفة الذكر في وقت لم تكن أسسها المعرفية قد تجذرت في العلوم الجغرافية على مستوى العالم في ستينيات القرن الميلادي الماضي، فجذرها سعادته علمياً منذ ذلك الحين، ونقل تقنياتها لطلابه، وأسكنها سويداء قلوبهم. وقد قرن سعادته استخدامه لتلك الأساليب بنظم البرمجة الحاسوبية التي تمكن بواسطتها رسم أنظمة الشبكات الرياضية وسطوح الاتجاهات النزوعية للمعادلات التي حوتها رسالته. ولا شك أن خبرة سعادته الكمية والتقنية الحاسوبية المبكرة قد أفادته بعد عودته من البعثة في إصداره حاسوبياً لعدد من معاجم الأماكن الجغرافية والكتب والدراسات ذات العلاقة التي يعد سعادته رائدها الأول بلا منافس مسجلاً بذلك أنموذجاً أكاديمياً فريداً للمقاربات الأسلوبية المعرفية بين ثقافتي العلوم الطبيعية والإنسانية بشقيهما النظري والتطبيقي المهني. وعوداً إلى ما سبق ذكره آنفاً من أساليب كمية، فقد حظي التحليل العاملي، وتحليل التمايز، والتحليل العنقودي الهرمي والكائي المتوسطي، ونماذج الإحصاء الاختباري التي بها تفحص العلاقات وتمتحن بنصيب وافر من تطبيقات العلوم الإنسانية. ولا ننسى أن نذكر أن الإطار المرجعي الإجرائي للعلوم الإنسانية كالجغرافيا مثلاً يزخر اليوم بتطبيقات فاعلة في التحليل الرياضي التفاضلي والتكاملي، والعددي الطبقي للمعلومات، ونظم المعلوماالجغرافية والاستشعار عن بعد، ونظم التوقيعات المكانية، ونظم الربط الشبكي الجيوديسي المكاني، ونظم المحاكاة والجيوماتيك، وحقائب التحاليل الإحصائية.
ولعل من أبرز الأمثلة على اهتمام العلوم الإنسانية بالمقاربات الأسلوبية المعرفية للتراكيب النماذجية وصيغ المحاكاة الراجعة بين الثقافتين الطبيعية والإنسانية انغماس تلك العلوم في الآونة الأخيرة في التجريب على الحيوانات كالكلاب والفئران واستخلاص التجارب التي طبقت نتائجها المحققة تجريبياً على الإنسان. فقد قام بافالوف مثلاً بعدة تجارب على الحيوانات توصل من خلالها، وفقاً للبحث الذي نشره أ.د. سعدي عطية عام 2022م بعنوان «بافلوف ونظرية الاشتراط الكلاسيكي»، إلى رد الفعل المنعكس الشرطي الذي تم تطبيقه بنجاح في عدة مجالات إنسانية تربوية وتعليمية تعلمية متنوعة. وتعد نتائج الأبحاث التي أجراها علماء الوراثة على الجرذان، وذباب الأشجار المثمرة مثالاً رائعاً آخر للتراكيب النماذجية وصيغ المحاكاة الراجعة بين الثقافتين الطبيعية والإنسانية. ولا شك أن هذه الجهود قد مهّدت الطريق لفهم قوانين الوراثة عند الكائنات البشرية، وساعدت علماء الإنسان على فهم الإشكالات المختلفة المتّصلة بعلوم العروق أو الأجناس البشرية. ولعل أحدث النماذج البرجماتية الرائدة للمقاربات الأسلوبية المعرفية للتراكيب النماذجية وصيغ المحاكاة الراجعة بين العلم والأدب والفلسفة الدراسة الموسومة « المسبار الفلسفي الزمكاني في ألف ليلة وليلة: مغامرة كشفية معاصرة» التي أعدتها الدكتورة رانيا العرضاوي أستاذة الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز والعضو المؤسس لجمعية الفلسفة. ففي هذه الدراسة، سبرت الدكتورة العرضاوي بكل كفاءة واقتدار أغوار رواية ألف ليلة وليلة بنية وتركيبا ومحتوى، وَنَمذَجَتها النمذجة السردية الراجعة التغذية في ضوء فلسفة الزمان وما تتضمنه هذه الفلسفة من سياقات معرفية ومفاهيمية مقاربة لتلك الرواية من حيث الحركة والسرعة ونسبية الأبعاد المسافية الزمكانية الفيزيوكونية (المصدر: ورشة المعرفة التي عقدت ضمن فعاليات «مؤتمر الفلسفة ومسائل الفضاء والزمان» الذي رعته وزارة الثقافة خلال عام 2022م ورفعت بعض مداولاته على اليوتيوب في 13-2-2023م).
وفي ختام مقالي هذا الذي بين أيديكم أود أن أشير إلى أن النص الذي سيرد ذكره أدناه بين معكوفتين يخص ملاحظة مهمة وثيقة الصلة بهذا المقال اخترتها من بين عدد من الملاحظات القيمة الأخرى التي وردت في التعقيب الضافي الذي سطره على مقالي المنشور في جريدة الجزيرة الغراء بداية الشهر الحالي سعادة المهندس الدكتور خالد بن يحيى أبوالخير، عضو هيئة التدريس بقسم العمارة بجامعة الملك سعود الذي قال في تعقيبه ما يختص بهذه الملاحظة المشار إليها أعلاه: «إنني أجد أعظم دليل على أهمية التداخل بين العلوم في المشهد البحثي اليوم لإنتاج أبحاث تنموية ملموسة فاعلة ترفع من قيمة اقتصادات المجتمعات البشرية المعرفية هو الذكاء الاصطناعي الذي سيغير وجه العالم. ولم يكن بإمكان علماء الطبيعة بانفراد تطوير برمجيات شبكية عصبية تحاكي تلك الشبكات العصبية لدى الإنسان لولا مساهمة علماء العلوم الإنسانية الذين أصلوا فهم كيفية عمل هذه الشبكات لدى الإنسان، ومشاركة نتاج أعمالهم مع نظرائهم في الجانب الطبيعي التطبيقي». وبعد شكري الجزيل لسعادته الكريم على هذه الملاحظة القيمة التي أتفق معها جملة وتفصيلا وخاصة ما يتعلق فيها بالذكاء الاصطناعي ودوره في تنمية مجتمعات اقتصاد المعرفة. فهناك فعلاً شواهد مرجعية لمقاربات أسلوبية عديدة بين الثقافتين الطبيعية والإنسانية تبرز، مصداقاً لما قاله سعادته في الاقتباس أعلاه، الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في مجالات عديدة تؤلف مسرح الأحداث التنموية، واقتصاديات مجتمعاتها المعرفية كالتربية والتعليم، والتعلم الموجه والذاتي، وتنمية مهارات ذوي الاحتياجات الخاصة، والطب، والعمارة والتخطيط، والبيئة، وسلامة المجتمع ونموه الاقتصادي، وتطوير مهارات البحث العلمي المهني بشقيه الطبيعي والإنساني النظري والتطبيقي. ولا شك أن الاقتباس الآنف الذكر الذي أسرني أن أختم به مقالي يفتح آفاقاً رحبة لسبر أغوار هذه التقنية الطفروية الحيوية المذهلة التي تمثّل أروع المقاربات الأسلوبية المعرفية البديعة للتراكيب النماذجية وصيغ المحاكاة الراجعة بين الثقافتين الطبيعية والإنسانية بشقيهما النظري والتطبيقي المهني موضوع هذا المقال ومحور اهتمامه الرئيس.