د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كان لدى الإنسان وسائل لترحاله مستخدماً ما هو متاح لديه، ولم يكن عنده في الزمن البعيد سوى قدميه للسير على الأرض، أو وركوب البحر في السواري والسفن كتلك التي صنعها النبي نوح عليه السلام في حقبة من الزمن، ولا أحد يمكنه تحديد زمانها أو مكانها، وإن كثرت الأقاويل حولها، وكل يدعي أنها قد رست على جبل لديه بعد أن أخذ الطوفان بالانحسار، ويقول الشاعر:
وَكُلُّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيْلَى
وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خدود
تبينَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
والغريب أن الرواة قد اختلفوا في من قال هذا لبيت فمنهم من نسبه إلى أبوالعتاهية، ومنهم من قال إنه للمتنبي، وحتى أن الاختلاف طال مفردات البيتين، فهناك من استبدل الخدود بالجفون، ومنهم من قال اشتبهت بدل اشتبكت، وهناك من أبدل ليلى بسلمى، وهكذا اختلفوا في بيتي الشعر، كما اختلفوا في زمان ومكان رسو سفينة نوح، والأدب فيه طراوة، والإنسان مجبول على حب كل طري من البشر، والثمر، والأدب، ومن الأجدر التوقف عن الحديث عن هذين البيتين حتى لا ننساق خلف كل طري، ونخرج عن صلب الموضوع.
والسفن الشراعية أخذت نصيبها من حيث الزمان، فكانت وسيلة النقل البحري من عصر نوح حتى ظهور السفن الحديثة قبل أقل من قرنين، وظلت كذلك دون اختراق علمي كبير، فالسفينة المنطلقة مثلاً من الموانئ الشرقية للولايات المتحدة الأمريكية تستغرق نحو اثنين وعشرين يوماً للوصول إلى الخليج العربي تزيد وتنقص طبقاً لموقع ميناء الرسو، وظلت كذلك، فهل يأتي اليوم الذي تختصر فيه المدة إلى أربعة أو خمسة أيام مثلاً، هذا أمر لم يحدث، لكن من المؤكد أنه سوف يتحقق، حتى وإن طال الأمد.
النقل البري المتمثل في السيارات، والقطارات، والمترو، ومترو الأنفاق، والدراجات الهوائية والنارية، جميعها تساهم مساهمة فعالة في النقل، ومنها ما هو أكثر رخصاً من الآخر لكنها أيضاً تطورت بشكل محدود عبر الزمن، غير أننا أخذنا نسمع باختراقات علمية كبيرة في هذا المجال، مثل القطارات السريعة، وتلك المسماة الطلقة التي تقذف بالركاب عبر أنبوب خاص، فإن تحقق ذلك على أرض الواقع دون عوائق تحول دون استمراره، فإن ذلك يعتبر نقلة نوعية في مجال النقل البري، وإلى أن يتم ذلك فسنظل نستخدم ما اعتدنا عليه منذ زمن بعيد.
لا أعلم إن كان من الممكن اختراع سيارات طائرة لمزج النقل البري بالجوي، مع أننا نسمع بأن ذلك على وشك التحقق على سبيل التجربة، وإلى أن يتم ذلك لا بد لنا من الانتظار، وعدم الحكم على نجاحه من عدمه، وإن تحقق شيء من ذلك، فإنه سيعتبر إضافة كبيرة ومهمة، وربما تغير الكثير من أسلوب النقل، وتقليل الازدحام، والاصطدام، فتقل بطاقة التكلفة الطبية للدول، كما تقل تكاليف إصلاح السيارات، والعدد الذي يذهب إلى مقبرة السيارات، وليس لنا أن نتعجب مما هو قادم فالدنيا أصبحت كلها عجائب، يقول الشاعر:
عَلى أَنَّها الأَيّامُ قَد صِرنَ كُلَّها
عَجائِبَ حَتّى لَيسَ فيها عَجائِبُ
والنقل الجوي، قرب بين البلدان، وزاد عند التنقل من الأمان، ومزج الثقافات، ووطد العلاقات، ومن خلاله قطع طلاب العلم المحيطات، فأصبح العالم ساحة معرفة لمن أراد أن يروي ظمأه منها، ولو لم يستخدمها الإنسان في الأمور الحربية والقتل والهدم لأصبحت أعظم اختراع تنجزه البشرية، فسبحان من منح الإنسان البصر والبصيرة، ليتدبر ويعمر الدنيا، ويستفيد من قوانينها الفيزيائية وتحويلها إلى مخترعات نافعة.
لقد قام العالم العربي الأندلسي عباس بن فرناس بأول تجربة طيران في العالم، ونجح في ذلك غير أنه فشل في الهبوط، وسقط وأصابته بعض الكسور البسيطة، حيث نسي الذيل بعد أن أكمل كل أمره بطريقة صحيحه بما ذلك وضع الريش والحرير على جسمه وذراعيه، وقبل أكثر من قرن من الزمان نجح الأخوان رايتز في صناعة أول طائرة، واستمر التطوير حتى وصل الى المحرك النفاث، وبعده توقف الاختراق العلمي الكبير سوى أمرين، طائرة الكونكورد الأسرع من الصوت، والتي خفضت مدة الطيران لكنها واجهت مصاعب مالية وقضائية بسبب الضجيج والصوت الذي تحدثه، مما جعل السكان القريبين من المطارات يرفعون دعاواهم، فتوقفت الشركة عن الإنتاج وخرجت من الخدمة بعد خمسة وعشرين عاماً من الطيران، وكانت انتكاسة للتطور، ودفعت إحدى الشركات بطائرة عملاقة من طابقين تحمل خمسمائة راكباً، وما زالت في الخدمة لكن لم تثبت قدرتها على إزاحة الجيل السابق لها، أو أخذ حصة تناسب ما أقدمت عليه، وما زال العالم في انتظار نقلة نوعية في مجال الطيران من حيث السرعة، بعد أن حقق الكثير في مجال الراحة والخدمة، وتبقى تكلفة الإنتاج وتكلفة التشغيل تدفع بأسعار التذاكر إلى الأعلى مما قد يسبب عائقاً في زيادة المسافرين جوا بقدر كافٍ.