سهام القحطاني
- -2
«فإن الإنسان إذا اعتقد عقدا وقال قولا، فإما أن يكون فيه مستفيدا من غيره، أو مستبدًا برأيه»-الشهرستاني-
لكل متأمل محايد سوف يستنتج أن الشعوبية ما كانت سوى فتنة أضرت بوحدة المجتمع الإسلامي في العصر العباسي وما بعده، واستغلت الدين كرأس حربة، وهي فتنة اشترك في تأسيس جذورها المسلمون سواء من العرب أو من غير العرب، وقد امتلك كلا الطرفين الوقود الذي أشعل تلك الفتنة وأسس خطاب الكراهية بين الطرفين، وبذلك فلا أحد مستثنى من دائرة الاتهام.
فحسد العرب على سيطرة المسلمين من أصول أعجمية على مفاصل الدولة العباسية، وفي رأيهم أنهم أولى بتلك السيطرة باعتبار أنهم أصحاب الدين الأوائل، وهو اعتبار يمنحهم استحقاق السلطان، وليس للعجم الدخلاء، وفي المقابل حقد المسلمين من أصول غير عربية، بتحكم العرب فيهم وهم أصحاب السلطان و الأرض الأوائل وليس للعرب الدخلاء.
هذه هي الثنائية التي كانت تُحرث جذورها منذ الدولة الأموية ليكتمل زرعها بين أيدي العباسيين، هي التي انبنى عليها أساس خطاب الكراهية الذي ظل محركا لتيار الشعوبية.
اتفق مؤرخو العرب قديما وحديثا على أن الشعوبية هي العداء للعرب.
فعرّف البغدادي الشعوبية «الذين يرون تفضيل العجم على العرب، ويتمنون عودة الملك إلى العجم»، ويعّرفها القرطبي بأنها: «تبغيض العرب، وتفضل العجم».
وهذا المعيار فيه تقليص لمفهوم المسلم الذي انبنت عليه الهوية الأممية للإسلام التي تتجرد من أي غلاف قومي أو صياغة زمانية ومكانية، ونقلها إلى غلاف قومي، بل وصفّها في قوالب تراتبية.
وعندما نحلل التعريفين السابقين ومجمل ما سار على نهجهما سنلاحظ أنهما يعتمدان على موقفين، موقف شعوري «الحب مقابل البغض» وموقف تصنيفي «العرب مقابل العجم» وهما موقفان حددا اتجاه الرأي العام في المجتمع الإسلامي، رأي تحيطه القطبيّة يتمثل في «إما أن تكون مع العرب، فتكسب صحة الإسلام، أو أن تكون مع العجم وفي هذه الحالة فأنت شعوبي زنديق، تضمر للعرب الكراهية.!
وظلت هذه الشرطية تتنامى في المجتمع الإسلامي حتى سقوط الدولة العباسية.
إن انتقال العرب بعد الإسلام من محيط الهوية القومية إلى انفتاح الهوية الأممية، كان هذا الانتقال بمثابة الصدمة الحضارية لقوم ألفوا جيتو الأحادية، وأظن أنهم لم يتخلصوا من هذه الصدمة الحضارية حتى عندما أصبحوا أصحاب حضارة، فحسهم العنصريّ كان الغالب في تعاملهم مع المسلمين من أصول غير عربية كما اعتادوا في جاهليتهم ،حتى أنهم حوّلوا هؤلاء المسلمين إلى مواطنين من الدرجة الثانية من خلال سلسلة التوصيفات، وهذا التوصيفات التي كانت تقوية متن خطاب الكراهية، لم تكن حصرا على مستوى تصنيف النسب بل والأدب، ثم الدين من خلال مصطلح «الزندقة» ،إذا أصبحت تهمة الزندقة غالبا ما تحيط بكل مسلم من أصول غير عربية، ويقول الجاحظ في هذه المسألة: «فإنّ عامة من ارتاب بالإسلام إنما كان أوّل ذلك رأي الشعوبية».
وكانت هذه «إشارة مبطنة» بأن هذه الطبقة الأقرب إلى «الكفر»، باعتبار أصل عقيدتهم.
ومقابل هذا التصنيف من قِبل العرب للمسلمين من أصول غير عربية، انتهج المسلمون من أصول فارسية ذات المنهج؛ فاعتبروا أن العرب أدنى مرتبة في النسب،وفقا لأصلهم الأموميّ؛ إشارة إلى السيدة هاجر زوجة إبراهيم وأم إسماعيل عليهما السلام، في حين أنهما من أبناء إسحاق بن إبراهيم وأمه السيدة سارة الحرة الأصيلة،وقد رد الجاحظ على هذه المسألة.
كان التفوق الحضاري الحجة الأقوى للمسلمين من أصول غير عربية وخاصة الفرس في معركتهم الشعوبية أمام العرب، ونكران استحقاق العرب في الولاية عليهم وفق حجة التفوق الحضاري.
باعتبار أن العرب قوم لا يملكون ميراثا حضاريا، ودخلت البلاغة معترك هذه الحرب، وكان لها نصيب الأسد في مجادلات الجاحظ، وإن كان الجاحظ قد خلط بين بلاغة العرب ما قبل الإسلام المبنية على البيان وبلاغة الفرس واليونان القائمة على المنطق.
وهذه الفكرة في مجملها غير صحيحة-بأن العرب قبل الإسلام ليسوا بأصحاب حضارة- فقد كان للعرب قبل الإسلام ميراث حضاري لكنهم لم ينشغلوا بإحيائه كما فعلوا مع ميراث الأمم المغلوبة، ولعل السبب في ذلك هو اعتقادهم بأن إحياء ميراثهم الحضاري قبل الإسلام هو عودة للجاهلية، أو عدم إيمانهم بقيمته مقارنة بقيمة الميراث الحضاري للأمم المغلوبة.
ولا يُنكر هنا دور الجاحظ في تسليط الضوء على ميراث العرب المعرفي قبل الإسلام كما ورد في كتابيه «البيان و التبيين، و الحيوان» ، وإن وقع حينا في شبهة انتحال؛ لتقوية حجته، كما أن فكر الجاحظ نفسه عليه مآخذ.
ولم تقتصر معركة الشعوبية على النثر بل أقحم الشعر نفسه فيه، مثل ملحمة «سيرة الملوك» لأبي القاسم الفردوسي ، ودخل كبار الشعراء في فتنة الشعوبية لنجد أنفسنا نتجاوز هاهنا «خطاب الكراهية» إلى «ثقافة الكراهية» ،فسقطت هيبة الشعراء في فخ العنصرية، وبدلا أن يسهم الشعر في محاربة تلك العنصرية كان خشبة موقد لتصاعد نيران تلك الفتنة من قِبل الطرفين.
إن خطأ العرب هاهنا أنهم لم يقدموا أنفسهم و حضارتهم ما قبل الإسلام إلى الأمم الجديدة، وحاولوا أن يقلدوا المغلوب و نسوا تاريخهم الحضاري، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون «الآخر بالنسبة لهم هو الجحيم» .
في معركة العنصرية لا غالب ولا مغلوب، فالكل يحيط به خطاب الكراهية.