إبراهيم بن سعد الحقيل
التلابيب جمع تَلْبِيْب، وهو ما اجتمع من الثوب على النحر والصدر. والإنسان العاقل الرشيد له تَلابِيبٌ فظنَّ هذا العاقل الرشيد أن الدنيا لها مثله تلابيب، أما المجنون فعلم أن التلابيب خاصة بالإنسان، فسَلِمَ منها وسَلِمت منه.
إن الإنسان الرشيد العاقل لما ظن أن للدنيا تلابيب ظن -وبعض الظن إثم- أنه يستطيع أن يُمسك بهذه التلابيب، فأخذ بكل جهده يسعى وراء تلابيب الدنيا، سعي الفقير إلى الغنى، والمريض إلى الشفاء، لكن الدنيا وتلابيبها المتخيلة تستدرجه من حيث لا يعلم، وتُرِيْه وَجْهها المُوَرِّد المُبْتسم مرةً بعد مرة، حتى توهم في نهاية مسعاه المظفر أنه عثر على هذه التلابيب، بل أيقن أنه قد أمسك بها كل إمساك، مسروراً جذلاً بهذا، مُنتشياً بهذا الفوز، يظن أنه قادر وقد قبض على تلابيب الدنيا أن يصفعها، بل وقاده العجبُ بنفسه أنه بعد أن أمسك بتلابيبها سيطرحها أرضاً لليدين وللفم، بل وسيدوس بأقدامه في بطنها.
بلغ به الزهو والغرور أن قرر أن يروض الدنيا الشقية كما يُروَّضُ الأسدُ الهصور في سرك بائس.
فجأة وقد بلغ به العُجب مبلغاً ظن الدنيا وتلابيبها أحقر من أن تنتفض بين يديه، أو تدافع عن نفسها وجده ممسكاً بتلابيب نفسه، ووجد الدنيا تصفعه حتى أصبح خده كقرص الشمس في وهج الظهيرة، ووجد أثر صفع الدنيا يسري من أصغر إصبع في قدمه اليسرى إلى هامته، ووجدها بقدميها العاريتين تدوس في بطنه، حتى لم يعد يشعر بجسده إلا كسفود فوق جمر يتلظى. لم تكتفِ الدنيا بهذا منه بل عصرت قلبه عصرة حتى استحال كبرتقالة تحت مهراس عصار نشيط.
أفاقه هذه من حُلْمِه الساذج، وارتسمت الحقيقة الصادمة على أفعاله المتغطرسة وجسده المترف، فعاد غروه ضعة، وعُجبه بنفسه استحقاراً.
إن تلابيب الدنيا لن تجدها في شخص الدنيا التي نطلبها بل هي في نسيان التلابيب جملة وتفصيلاً، فإذا تركت تلابيب الدنيا تركت الدنيا تلابيبك، مع أن الناس لن يتركوا تلابيبك إلا إذا تركتَ تلابيبَ الدنيا وشأنها، وإنما الصراع بين الناس على تلابيب الدنيا الدنية.
هذه حال الإنسان مع الدنيا، يظن أن النجاح الذي وافقه في أي مجال طرقه نصراً على الدنيا، لا يراه نصراً مؤقتاً بل نصراً مستمراً مؤزراً، لكن تقلبات الدنيا لا تلبث أن تريه وجهها الآخر، الذي طالما أرته الناس منذ بدء الخليقة، منذ أن ذهب هابيل بيد أخيه قابيل، ولهذا قال الحكيم: الدنيا غَدَّارةٌ غَرَّارة. إن بَقِيتَ لها لم تَبْق لك. وقال أحد الحكماء: إن الدنيا ليست تُعْطيكَ لتَسُرَّكَ، ولكن لتَغُمَّك وتَغرّك. وقديماً قال مسلم بن الوليد الأنصاري:
دَلَّتْ على عَيْبِها الدُّنيا وصَدَّقها
ما اسْتَرجعَ الدَّهرُ ممَّا كان أعْطَانِي
وقال أبو نواس:
إذا امْتَحَنَ الدُّنيا لَبِيْبٌ تَكَشَّفتْ
لهُ عن عدُوٍّ في ثيابِ صَديقِ
وما أكثر الذامين للدنيا، بل يسمونها الدنيا الدَّنِيَّة، لكنهم منها كحالب الآتان يَذُمُّها ويشرب حليبها، وكأن الشاعر عناهم بقوله:
يَذُمُّونَ دُنياهُم وهم يَحْلِبُونَها
ولم أرَ كالدُّنيا تُذمُّ وتُحْلبُ
وسمع عبدالرحمن بن عبدالله المسعودي (ت 160هـ) رجلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا، الراغبون فيما عند الله؟ قال: اقْلِبْ المعنى وضعْ يدك على من شئت.