عهود عبدالكريم القرشي
الرمل في لحظة انفعال، قد يؤذي العين ويُبكيها، ولكن أن يغدو للرملِ دموع فهذه مسألة رمزية، نحتاج فيها إلى رحلة نحو أعماق الصحراء مُصدّرة الرمال وحاضنة التلال!
تبدأ رواية «دموع الرمل» لشتيوي الغيثي الشاعر السارد الجديد (كما أطلق على نفسه)، بسطر قصير «الحياة ذاكرة!»، تشريع لغوي لكتابة رواية. ثم تمضي الأحداث بين حد الموت والحياة، كلعبةٍ خطيرة، أو مسابقة بعنوان: لمن الموت اليوم. تبارك الصحراء حفلة الموت هذه، مرة بالعطش، وأخرى بالحرب، ثم بالضياع أو الهلاك أو المرض! لا شيء يقف في وجه الموت الصحراوي الجاف الحارق الصعب!
وُفق الغيثي في كتابة رواية تاريخية قصيرة مركز -وهو ما نحتاجه في هذا الزمن كما أزعم- أعني التقنين والتركيز على موضوع محدد في رواية رشيقة. نجح الشاعر في إخراج رواية تاريخية يُحتفى بها، و بالرغم من تكرار بعض المعاني، وتعدد تساؤلات الراوي، وكثرة فصول الرواية مقارنة بحجمها، إلا أنه أشبعني سرداً تاريخياً، ومشاهد درامية، وتتابعاً في الأحداث، وتلاحقاً في التشويق.
تكمن صعوبة كتابة الرواية التاريخية -من وجهة نظري- أن الأبطال أمواتٌ من الصفحة الأولى، والأحداث مضت وانتهت، لذا فإن مهمة الروائي الناجح تتلخص في صنع قالب درامي يصبُ فيه الحدث التاريخي بطريقة مشوقة. عليه خوض معركةٍ حرفية بقلمه البتار لبث الروح في ذكرى الأموات، لخلق ظروف قد عاشوها، ومعاناة لم يكتبوها، وأمنيات ذبلت في صدورهم ولم يحققوها!
أفكر في مسألة كتابة رواية تاريخية على أنها تجربة مُخيفة، فالموت يحاصر الأبطال من كل الصفحات. فكم مرة يا تُرى تنهد قلب شتيوي وهو يكتب «دموع الرمل»؟
أما المدخل الدرامي لعرض الأحداث التاريخية الكبرى وتوزيع قوى التركيز على الشخصيات المُتخيلة التي حركها الغيثي بخيوط الخيال، فقد اختار مدخلاً مناسباً مميزاً ومشوقا. حضر صوت الحفيد الأربعيني لبطلة الرواية «نوير» يسترجع من ذاكرته البعيدة حكايات جدته التي كانت تخلط ماء الذاكرة بزيت النسيان، وحده الحفيد من استطاع فصل الحقائق عن الأوهام، وسرد الحكاية كما يتصورها. ورغم تتابع السنوات إلا أن قصص الجدّة نويّر لم تمت في ذاكرته، ربما لأن حكايا الجدات وشمٌ على صدر العُمر.
قسم الغيثي روايته إلى ستة فصول الجامع بينهم الحياة والألم، (ذاكرة من غبار- في البدء كان الألم- الحياة قرار لا رجعة فيه- المخاض وجه قاس لا بد منه- للحياة طريق آخر- الحياة ليست إلا انكساراتها). كنت قد اتخذت موقفاً من عنوانه فصول الروايات القصيرة، أشعر أن من حق القارئ أن يُبحر في بُحيرة الرواية القصيرة بلا هُدى لأنه لن يغرق على أي حال، ولكني التمست جمالاً في عنوانه فصول «دموع الرمل»، ربما لأن حياة نويّر ما كانت سوى تقلبات صادمة، وهذا العُمر لا يكفيه شطر بيت ولا عنوان وحيد!
في الكتابة عن الرواية بشكل عام أشعر أن من واجبي تتبع مكامن الإبداع وإبرازها لعشاق الرواية ومغرمي السرد، أما في رواية «دموع الرمل» أرى أن من واجبي الحديث عن نوير التي لوعتها الصحراء، وربما ظلمها الكاتب وصفاً وقَدَراً ونهاية.
ابتلعت الرمال الرجال في حياة نويّر، الماء والذئاب فعلا ذلك أيضاً، وحدها الوصية بقيت إطاراً لحياتها كما رسمها والدها، ضد رغبتها، ضد تطلعاتها -إن كان ثمة تطلعات- حيث أوصى صديقه (رجل في مثل عمره) أن يتزوج ابنته إن أخذه الموت في رحلته التي اختارها. رحل الأب ولم يودع ابنته بكلمة، رأته راحلاً من بعيد مُتخذاً طريق الغياب! تركها. لمَ لم يُكتب مشهد وداعٍ واحدٍ مؤثر تقديراً للفتاة التي ستبقى بلا سند، التي مات إخوتها، التي حينما ترك الناس والدها ورحلوا بقيت معه تطببه، تحنو عليه، تقاسمه العطش والوحدة والجوع! رحل الأب نحو مجهول ندم عليه من أول منعطف رملي، ولكنه رتّبَ لها مستقبلاً مع صاحبه!
أما ابن نويّر فالبرغم من حداثة عمره وتمتعه بالعلم والمعرفة، إلا أنه كرر خطأ جدّه، وورث عنه صفاقة القرار، وهوجاء الاندفاع! كلاهما أخذته الأقدار لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وكلاهما تردد ثم ندم، فكرا بالعودة للقبيلة والأهل، ولكن موانع مثل كلام الناس، ومحاولة إثبات النفس، دفعتهما للمشاركة فيما ليس لهما. تأسفت لحالهما، وأعجبتني رمزية الانقياد بلا هُدى مع الخاسرين. درسٌ تاريخي مهم.
ماذا اقترفتِ يا نويّر حتى يُكتب عليك تجرع لوعة الانتظار طول العمر، وتحمل قرارات الرجال، فهذا أب يقاتل في معركة لا تخصه، وذاك رجل يتصدق عليك بالزواج، وابن مُتخاذل هامَ في الصحراء وكرر خطأ من سبقوه! ماذا اقترفتِ يا نويّر حتى تُجَرَدينَ من معالم الأنوثة وما يغري الرجال بالزواج منك كما تم وصفك؟
تسلّحت نويّر بصفة العناد الذي غذته خيباتها من الرجال في عالمها، واتخذت وجهاً واجماً باركته قراراتهم. رأيتها الضحية التي لا ذنب لها سوى قدرها. تألمت لحال نويّر الشخصية الحبرية التي خُلقت من كلمات، وعانت على الصفحات، وماتت بجرة قلم.
أعود لموضوع المرأة في «دموع الرمل». تأتي زوجة أبو سالم بتصرفاتها وصراخها وشتائمها، لتزعج بقية شخصيات الرواية وجميع القراء. كأنها صورة لامرأة معاصرة اكتسبت «وقاحة التسلط والتجبر» من المسلسلات! أما جدة نوير القابلة، الداية، الخبيرة بأمور النساء أو هكذا رأيتها، فلماذا لم تعش نوير معها؟ سألت نفسي هذا السؤال وأنا أقرأ وصف بيت نويّر وتعبها واستنكار أبناء عمومتها! ثم تأتي وضحى -والده الحفيد السارد- والتي رأيتها كالبياض في نهاية النفق، النور بعد العتمة، امتداد النسب والمسوغ المنطقي لوصول الحكاية لنا عبر الزمان. تنوع جميل في الشخصيات النسائية. أعجبني جداً التعريض والتصريح لبعض القضايا النسائية الخاصة بأحداث الرواية، لقد كتبها الغيثي بطريقة تنم عن قلمٍ يحترم قراءه.
لفتة ذكية جميلة أخرى من الغيثي حينما خبأ اسم عبد أبو سالم حتى الصفحات الأخيرة، عرفنا اسمه لحظة عتقه، كانت فرحة مضاعفة بالنسبة لي، هذا العبد الذي تحدث بعمق وفهمٍ للحياة، وتمكن من لعب دور الأب الحقيقي نيابة عن الأب المتكاسل.
لم تخل الرواية من جرعات شعرية مقتضبة دفعت بالأحداث للأمام، كشفت خفايا تاريخية، وطبّعت الرواية بطابع البداوة، كأن الشِعر في «دموع الرمل» دهن عود عطر به الغيثي صفحات سرده.
كما ورد في الرواية مجموعة من التساؤلات العميقة الوجودية وربما الفلسفية -سموها ما شئتم- عوضتني عن غياب اللغة الشاعرية التي هيأت نفسي لقراءتها، وغابت ربما لحرص الشاعر الغيثي على خلع عباءة الشعر وتقمص دور الروائي المُخلص لبناء الحدث أكثر من بناء الجمل البلاغية الشعرية. أما الأسئلة فهي كثيرة وموزعة في ثنايا الأحداث أختار منها على سبيل المثال: «هل الدهشة إلا إعادة الأشياء إلى غرابتها؟» ص12،
و»لماذا كان الموت هاجس الحياة الأزلي؟» ص22، وأيضاً «لماذا تقودني الحياة لمصير لم أرده؟» ص124.
«دموع الرمل» رواية لشاعرٍ مُثقف قادر على تطويع الأحداث التاريخية، وصناعة حكاية درامية وبث الشِعر بقدرٍ يضيء ولا يُعمي. رواية كما يجب أن يُحكى التاريخ، تحث على البحث عن المعارك المذكورة فيها، عن الأسماء التاريخية، الأشعار والقصص، الأمثال، الأدوية الشعبية، أدوات الحرب وتطورها، أماكن المعالم التاريخية وصورها.
أختم باقتباس راق لي من «دموع الرمل» حيث يقول الغيثي: «للصحراء أُنس الحرية…و للأسوار وحشة السجون».