د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
أما العنوان السابع الذي جاء في كتاب النحوي القدير الأستاذ الدكتور محمد عبدو فلفل (المعنى في النحو العربي بين الوفاء لوظيفة اللغة وإكراهات الصنعة النحوية) فهو (الإعراب والمعنى عند ابن جني).
عالج أستاذنا موقف ابن جني لأهمية ذلك في بيان علاقة الإعراب بالمعنى؛ ولأن من المعنيين من لم يوفق في بيان موقفه من ذلك. ويبدأ بأمثلة عالجها ابن جني في باب (في الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى)، ونجتزئ بمثال هو (زيد قام) قال «ربما ظن بعضهم أن زيدًا هنا فاعل كما أنه فاعل في المعنى» (ص82، والنص في الخصائص 1/ 279). ويوضح مراد ابن جني وهو أن إعراب النص وفاق معناه قد يخل بالصناعة النحوية، ولذا يوجه بإعرابه إعرابًا يحافظ على أصول الصناعة، ويخدم المعنى؛ ذلك أن المقدم (زيد) فاعل في المعنى؛ لكن لا يجوز إعرابه فاعلًا لأن الفاعل لا يقدم على فعله.
ويشير إلى شدة اهتمام ابن جني بالصنعة حتى دعا إلى رعايتها وإن تعاند الإعراب والمعنى، قال ابن جني «وإن كان تقدير الإعراب مخالفًا لتفسير المعنى تقبلت تفسير المعنى على ما هو عليه وصححت طريق تقدير الإعراب» (ص83-84 والنص في الخصائص 1/ 384).
ويبين الأستاذ أن ابن جني قد يتكلف في التقدير والتأويل بل قد يخل بمعنى التركيب المعرب، ومثال ذلك معالجته (ضربته سوطًا)، ونحن نعلم أن (سوطًا) مفعول مطلق، ولكن آلة الفعل نابت عن المصدر، ويرى ابن جني أن معناه (ضربته ضربةً بسوط)، ولكن يعربه على أنه (ضربةَ سوط) ثم حذف المضاف وانتصب المضاف إليه، وهذا عنده أسلم من الإعراب على حذف حرف الجر «فتحتاج إلى اعتذار من حذف حرف الجر، وقد غنيت عن ذلك كله بقولك إنه على حذف المضاف، أي ضربةَ سوط، ومعناه ضربةً بسوط» (ص84-85، والنص في الخصائص 1/ 284)، ويرى الأستاذ أن ابن جني تكلف في تقديره إضافة (ضربة) إلى (سوط)، وأن هذا قد يفهم منه التشبيه (ضربته ضربة سوط) أي ضربة كضربة سوط، والحق أنا بتأملنا التركيب نراه يدل على عدد الفعل أي عدد مرات الضرب، وإن كانت آلته السوط، أي عدد مرات الضرب بالسوط. وأحسب ابن جني أراد ذلك وإن لم يصرح به؛ وذلك أنه في تقديره المعنى قال (ضربته ضربةً بسوط) فاستعمل (ضربة) الدالة على المرة، ولو لم يردها لقدر (ضربًا) أي (ضربته ضربًا بسوط). ومع ذلك يرى أستاذنا أن ابن جني «تحاشى حمل هذا التركيب على وجه يخلص للمعنى؛ ولكنه يوقعه في محظور صناعي عنده يتمثل بالنصب بنزع الخافض مما جعله يوجه هذا التركيب توجيها مفتعلاً ويتجنى على المعنى مما يشي أيضًا بأن الإعراب عنده لا يكون دائمًا في خدمة المعنى» (ص85-86).
وبيّن أن الإعراب والمعنى عند ابن جني قد يتجاذبان، وهذا ما أوضحه في (باب في تجاذب المعاني والإعراب) وفيه يشير إلى ما سبق ذكره عن المعنى والإعراب، وهو أن تقبل المعنى كما هو ولكن تصحح الإعراب، ويعلق أستاذنا بقوله «والحل عند ابن جني كما يفهم من كلامه هذا أن تفهم المعنى كما يجب أن يفهم، أي كما هو، وأن تتكلف أو تفتعل إعرابًا لا يوضح غامضًا في المعنى، ولكنه يحافظ للقاعدة على اطرادها أو شمولها المزعومين، أو حصانتها المزعومة» (ص86). ويورد مثالاً عالجه ابن جني وهو قول الشاعر:
فخير نحن عند البأس منكم
إذا الداعي المثوّب قال يا لا
فابن جني لا يعرب (نحن) مبتدأ تجنبًا للفصل بين (خير) اسم التفضيل ومتعلقه (منكم)، ولذلك يعده توكيدًا للضمير المستتر في الخبر (خير)، وأما المبتدأ فهو محذوف، والتقدير (فنحن خير نحن عند الناس منكم)، ولا جدال أن في هذا القول تكلف كما قرر الأستاذ، وأمثال هذا البيت كثير كما قال؛ ولذلك رأى أن ذلك جدير بأن يدعو ابن جني إلى إعادة النظر في القواعد، وهو الأولى في نظري إن أمكن، فإن تعذر فالصواب قبول النصوص بعلاتها من غير تعسف إعرابها، ففي البيت يمكن القول إن المبتدأ جاء فاصلاً بين اسم التفضيل ومتعلقه، وأن هذا لا ضير فيه لأنه على نية التقديم.
ويقفنا (ص90-91) على موقف بعض الدارسين، فمنهم من يقول إن الإعراب يخدم المعنى ومنهم من زعم أن عمل ابن جني لا يترك فجوة بين النحو والتفسير، وأنه اختار من الأوجه الإعرابية ما يرقى بالمعنى ويرفعه، وانتهى الأستاذ إلى استحسان قول محمد طاهر الحمصي أن ابن جني استحسن مراعاة المعنى عند الإعراب ولكنه لم يشترط مطابقة الإعراب المعنى، وقد أخذ الحمصي على ابن جني وغيره تعلقهم بالصنعة تعلقًا يتطفل على المعنى ويفسده أحيانًا ويُذهب بهاء البلاغة ورونق التأليف.