حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
(2-2)
السير الشخصية فن أزدهر وتطاول وتنامي على مشارف القرن الثامن عشر، وبرع المتأدبون العرب في حياكة درره، ونسج حكاياته وهي تكشف عن قدراتهم ومواهبهم ونز عبقرياتهم، وكان أدباء العرب يقرأون سير التراجم الغربية ثم ينسجون على منوالها، فسطروا في ذلك الكتب العجيبة سواء أكان ذلك قديماً قدم الزمان أو حديثاً فابن خلدون وابن طولون وابن سينا والجاحظ وأبو حيّان التوحيدي والغزالي والجزري والسخاوي والسيوطي وغيرهم من الكثرة بمقال لم ينسوا أنفسهم وتسطير شذراتها وفلسفتها وحنينها بعدتها وعتادها في مؤلفاتهم، فإذا قدر لكل عالم أن تجمع شذرات قوله عن نفسه يأتي من ذلك حلل علمية وتحف أدبية، وتراجم ذاتية تمتع وتطرب وتؤنس.
وفي حديث عهدنا هذا برع البارعون من الناس في كتابة سيرهم وتراجمهم وتصوير أنفسهم في مؤلفات مستقلة قائمة بذاتها، فطه حسين وأحمد أمين والعقاد والرافعي والمنفلوطي ليسوا منا ببعيد بل هم على مشارف الذاكرة، وكتبهم مطبوعة، ونتاجهم منشور، وقد أثبتوا بفرائدهم ما وصلت إليه القريحة الأدبية الشاعرة المتفننة من تفنن ونهضة ونبوغ، بل أصبحت السير الذاتية في عصرنا هذا الحديث سنة أدبية مطلوبة من أعلام زماننا، وأعيان وقتنا، ولا تسل – أيها الحصيف – عما أبدع فيه المبدعون، وتفنن فيه الملهمون، وأول ما يطربك في السيرة الذاتية عنوانها واسمها وكلما وفق الأديب فيه كان ذلك أدعى إلى انتشار دره ونتاجه، ألم يقل العارفون من الناس لي ولك ولغيرك: الكتاب يعرف من عنوانه، وهذا برمته وعينه ما يخلب ذوقك في سيرة الأديب التربوي المترجم السياسي منصور محمد الصالح الخريجي -رحمه الله- في صفحات من حياته، وعنون لها بقوله: ( ما لم تقله الوظيفة) ثم بربك القارئ الملهم أليس هو عنوانا طريفاً بديعاً؟ حقاً وحقيقة أحسبه كذلك، وهو في عمله هذا متأسي ومقتدي بأدباء سعوديين خلص خلب، فمعالي الأديب الوزير الدكتور عبدالعزيز الخويطر – بلَّ الله ضريحة بوافر رحمته- له سيرة جميلة وقصص بديع في رواية طويلة ربت مفردات أجزائها على الأربعين جزءاً وبادئ ذي بدء لا تسلني عن جمالها، بل دعني أحدثك عن طرافة عنوانها: ( وسم على أديم الزمن)، فقد أبدع في العنوان، وتطاول في لبها ولبابها ومضمونها، والأديب الدكتور عبدالعزيز الربيع له مسمي جميل معبر وهو ذكريات طفل وديع، والأديب الفحل محمد حسين زيدان له ( ذكريات العهود الثلاثة) وعلاقة الجزيرة العربية وهمدانيا له نتاج مؤنس وهو (من سوانح الذكريات) ولا تنسى أيها القارئ الطلعة – سيرة الأديب الكبير البليغ – أحمد حسن الزيات – تحت مسمى جوهري : (ذكرى عهود) وهي من بريق ونضير وبديع ما كتب عن تراجم النفس، وأحاديث الذات، وقد تلاعب بألفاظها، وماز اللباب عن القشر، وأطرب ذوقك، وآنس ذائقتك فلله دره.
يقول الخريجي -رحمه الله- ( مالم تقله الوظيفية ) والمعنى في بطن الشاعر، وهل المرموز إليه من خبايا شخصية الخريجي، فهو يعمل في السلك السياسي، غير أن هذه السيرة افزرت لنا أديباً سعودياً على أرقى المستويات، وأعلى الدرجات، ولأهل الأدب وسدنته – رأيهم في هذا يقول الدكتور معجب الزهراني عن السيرة: ( إن سمات الصدق والبساطة والعفوية أوضح وأقوى دليل على أن الكاتب كان يكتب بقلم الأديب المبدع الشفاف دون تسطيح، والمنبسط دونما ابتذال)، والدكتورة عزيز المانع لها رأي فصل في مقال الخريجي حيث تناغمت بقولها: ( قرأت كتاب» صفحات من حياتي» فوجدت صفحاته ممتعة بأوسع معاني الإمتاع، ورائعة كأروع ما تكون السير، وقيمة كأقوم ما تكون الكتب). والدكتور أحمد البدلي يقول: ( ما إن فرغت من قراءته حتى أحسست بمتعة لا حدود لها، وهل الفن والأدب إلامتع والمؤانسة؟ ).
فهؤلاء ثلاثة أساتيذ من رواق الأدب يشهدون لمنصور الخريجي بأن أديب من الطراز الأصيل، وقد استطاع أن يرسم سيرته بريشة محلل أديب سياسي ضليع على قدرة عالية من رسم خلجات النفس الإنسانية والطبيعة البشرية، وتتجلي في هذه السيرة وتلك المسيرة سمة الوصف عند المؤلف فهو وصاف من الدرجة الأولى، وقد خلبت لبي مقامات أمعن فيها قلمه بالوصف والرسم، من ذلك وصفة لحي المحمودية في طيبة الطيبة، ووصفه للثوب الجديد حينما ينقع في قشر الرمان، ليلبس أبهة لونية جديدة، كما أبدع في وصف حالة البرد والزمهرير القارص اللاذع الشديد في وقت الشتاء، والمشقة التي تعتلى النفس إذا همت بترك الغطاء الوثير، واستقبال يوم جديد فيه كدح وتعب وجهد، كما مازني وصفه شيخه الطفلة التي كلفة شيخه في الكتاتيب تعليمها وتلقينها وقد كانت على قدر من غباء العقل وجمال الشكل وصف شعرها فكساه جمالاً على جمال حيث يقول: ( كان تلاميذ الشيخ أحمد من الجنسين أولاداً وبناتاً، وكان قد عهد إلىّ بفتاة صغيرة أقوم على تدريسها، كانت طفلة جميلة، أذكر أن لون شعرها كستنائي أو وهو لون الشعر الأسود إذا ما صبغ بالحناء، شديد التجاعيد يشبه شعر تماثيل عظماء الرومان، في أوج مجد إمبراطورتيهم ولكنها كانت أغبي ما يمكن أن يصل الغباء بإنسان، لم تكن تستوعب شيئاَ ولا اعتقد انها فهمت كلمة أو حرفاً مما ابتدأه الشيخ معها أو عندما رزأني أنا بها).
وعن وصف السفينة ( الملكة اليزابيث) والعيش في ربوعها، حيث استقلها مع أسرته الصغيرة في إحدى الرحلات: (السفينة « الملكة اليزابيث» هي واحدة من الإنجازات التي حققها الإنسان فهي نتاج عمل عملاق يدل على إمكانات العقل البشري الذي هيأ الله تعالى له قدرات عظيمة لينجز أعمالاً فذة، هذه السفينة تعتبر في الواقع مدينة متكاملة عائمة، فهي تضم أجنحة وأقساماً وغرفاً عديدة، وتضم أيضاً حوانيت ومطاعم ودوراً للسينما وبرك سباحة وأماكن للترفيه وحضانة للأطفال، كما أن فيها جريدة يومية، وإذاعة وباختصار لا يشعر الراكب أنه مسافر، بل يشعر كأنه انتقل إلى بلد جديد يجد فيه كل يوم أشياء جديدة، وأنماطاً مختلفة من البشر، إنه عالم متكامل قائم بذاته، ميزته أنه عالم محدود صغير، لكنك تجد فيه كل نماذج المخلوقات، ولأنه عالم متكامل فأنت بدون شك ترى وتحتك بكثير من سكانه).
ومن مواضع الوصف الجميل والرصف البديع، وصف رمال الصحراء والسفر عبر النفوذ في تلك الرحلة من العودة من سوريا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث هي رحلة الموت والنهاية الأبدية لولا أن الله لطف وسَلّم، كذلك وصف الطبية أزقتها شوارعها، حاراتها ، معالمها.
وكان يرسم شخصيات الكتاب بريشة الفنان المحترف، فيأتي على معالم الصورة كلها لوناً وشكلا وهيئة وأبعاداً فلا تذر الصورة صغيراً ولا كبيراً إلا التهمته إن صح عليه ولا تعرج على شارد أو وارود، ولا مرفوض ومقبول إلا أنت عليه، فلا تستبعد نفسك من وقوعها تحت نتاج آلة تصويرية نفيسه الصنع، وباهضه الثمن وقد جادت بطلع فيه كل ما أفرح واضحك ولذَّ واستجاد واستملح، ففاطمة تلك الفتاة الجميلة، والنسمة الرقيقة اللطيفة، فهي كنسمة الربيع، في شذاها وعطرها وعبيرها، فهي في السن قبلة مباشرة أي تكبره بسنتين وقد لذعه خطبها، وأحزنه أمرها، وذرف الدمع حاراً هطولاً مدراراً لها ومنها وعليها، رثاها لحزن أسى، ولفؤاد تألم ورثى وفي حديثه عنها يتجدد عليه ذلك الحزن الذي طاف بها حينما أسلم والده الروح لباريها، غير أنه من ناحية حزنه على أبيه كان أصغر سناً ، وأغضى إهاباً، ولم يعبر عن أساه بلغة حزينة مؤثرة مبكية فطرت القلوب، وأذ زفت العيون، وكلمت الأحاسيس والشجون، كما قص علينا خطبه مع فاطمة، وكان موتها بالنسبة إليه مواجهة صريحة مع هادم اللذات: ( كان شيئاً رهيباً مخيفاً أن أرى أختي وهي التي كانت ممتلئة حياة وجمالاً، تتحول فجأة إلى جثة هامدة مسجاة على الفراش نفسه الذي كانت تنام عليه بالأمس، .... يالها من ليلة لم أعرف مثلها من قبل، كانت الوالدة تبكي، ونحن – أبناءها – نبكي معها، ... كنا نحن الباقين نجلس القرفصاء حول الفقيدة الغالية، ينخرط الواحد منا في البكاء إلى أن يغلبه النعاس، فيميل برأسه يمنه أو يسره، ثم يتنبه فجأة فيفتح عينيه ويدرك ما هو فيه فيعود إلى البكاء من جديد، .... قاموا بغسلها وإلباسها ملابس جديدة فبدت وكأنها عروس ستزف عما قليل إلى عريس ينتظرها، ... حاولت إقناع نفسي بأن كل ما شاهدته كان مجرد كابوس مرعب وأن فاطمة لم تمت ... ولكن هيهات، وسرت مع السائرين في جنازتها، وبكيت كما لم أبك من قبل فقد كانت فاطمة أقرب أخواتي إلىّ فهي بترتيب السن تأتي قبلي مباشرة ) وحينما ننظر في أطواره
العمرية فقد فقد والده وهو صغير، إلا أن براءة طفولته أنسته شجن أبيه وخففت عليه لوعه البين، وحرة الفراق، ( لا أذكر شيئاً عن حياتي مع والدي، ولكن أذكر جيداً عندما مات... أذكر أننا ونحن عائدون من المقبرة أنني كنت أتحدث مع بعض أقراني من الذين حضروا الدفن معنا وسرعان ما نسيت ما أنا فيه، وأخذت أضحك مع صديقي بصوت عال، ثم لم ألبث أن تذكرت أن أبي قدمات وأن علىّ أن أبدو حزيناً متجهماً، ولكن سرعان ما عدت مرة أخرى إلى الضحك والمزاح وكأن شيئاً غير عادي لم يحدث).
وأما اللقاءُ الثالث مع الموت فكان وهو مبتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة حيث منى بموت عزيز مقرب إليه ، وهو خاله ( محمد فهد المعجل) إلا أنه عند هذا اللقاء كان أصلب عوداً، وأقوى إداركاً فهو على أشدة استواءً على النفس واعتماداً عليها فما كان منه إلى الحوقلة والاسترجاع والدعاء له بالرحمة والغفران والعفو، ( طالما سرحت بي أفكاري وصورت لي أن خالي مازال حياً، وأنني سوف أسافر إليه في سوريا.... تصورت أنني أقصده.. أفاجئه بوقوفي بجانبه... كانت أحلاماً جميلة لكنها لم تتحقق ... رحمة الله وجزاه أجمل ما يجزي به عبداً صالحاً... مات عبداً شكورا قانعاً بما قسمه له رب الأرزاق) ، فهذه ثلاث لحظات من لقيا الموت ولكل موقف مشاعره وسنة وتبعاته، إلأ أن حزنه على تلم الفتاة الملائكية كان حزناً شديداً فهو كقشة البعير التي قصمت ظهرة ، ماتت فاطمة وكانت من قبل يانعة طريفة رقيقة حلوة جميلة، غير أنه لكل شيء إذا ماتم نقصان ........ فلا يغر بطيب العيش إنسان
قالت أميمة ما لجسمك ناحلاً
منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعاً
إلا أقض عليك ذاك المضجع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع .
لم يطرق الحزن عتبات منصور محمد الخريجي كلها، بل كان له البلسم السعيد والترياق المجرب المفرح، والدواء النمير ، والماء الزلال السلسبيل ، أيام الطفولة والصبا المبكر هي أجمل وأهنأ الأيام التي يعيشها الإنسان.. تلك هي ( أيام البراءة والبساطة والخلو من المشاكل والطموحات وخيبات الأمل والألم والعذاب والهموم التي تأتي مع تقدم العمر... من نعم الله تعالى كل على إنسان طفولته وصباه المبكر، ففي تلك المراحل من حياة الفرد يكون همه هو اللحظة التي يعيشها، ولا يحلق العقل الناشئ إلى ابعد مما تصل إليه اليدان).
أرجع زمان الأمس من صفحاتي
ما أجمل الأيام بعد فوات
ذكرى يعود إلى الفؤاد حنينها
دوماً إذا ذاق الفؤاد أساتي
دعني أمتع بالتذكر خطرتي
وعلى الطول أمتع النظرات
ما زلت أذكر ها هنا خطواتنا
وعلى الرمال ونقذف الحصوات
زمن تولى من ربيع حياتتا
في ظلله ما أجمل الأوقات
أني لأ ذكر تلك أحلى لحظة
زمن الطفولة ذاك زهر حياتي
وبعد:
فالمؤلف يمعن في القول بكل طاقاته وقواه وإمكانياته معتمداً على تسلسل زمني جرت فيه الأحداث معملاً ذاكرة عجيبة تصويرية لا قطة منظمة، حقاً لا أخفيك القول أيها القاري التحرير لقد أنست بهذه المسيرة وما في طرحها من ظرف وطرف ولطف وأسلوب ساخر أضفى على الكتاب هالة من المتعة واللذة والأنس، وهذا بعينه ما أشار إليه د. منصور الحازمي في تقريظة للكتاب، هي سيرة شخصية صادقة فيها متعة أدبية ودعه فنية لرجل صارعته الحياة فصرعها وعارك الحياة فعركها حتى أستوى الزراع على ساقه ولكل زمان دولة ورجال.