د.محمد الدبيسي
ومن المشاهد التي اتخذها الطيب الأنصاري؛ أمكنة للتعليم والدرس: منزله، الذي كان يواصل فيه استقبال تلاميذه وطلاب العلم، من بعد العشاء إلى الثلث الأول من الليل، ولم يكن الطيِّب الأنصاري بِدعًا في هذا النَّهج، بل كان يتأسَّى بسَلَفِه، ومجايليه، من علماء المسجد النبوي الشريف، الذين كان ديدن بعضهم اتَّخاذ بيوتهم معاهد للعلم والتدريس، يستقبلون فيها الطلاب، ويعقدون لهم حِلقَ الدراسة والتعليم، من أمثال: الشيخ عبد الله القدومي (ت1331هـ)، والشيخ ملَّا سفر الكولابي (ت 1335هـ)، والشيخ ياسين بن أحمد مصطفى الخياري (ت 1344هـ)، ثمَّ الشيخ عبد الرؤوف بن عبد الباقي المصري (ت1360هـ)؛ وكذلك كان شأن الطيِّب الأنصاري، الذي كانت حياته كُلّها وقفًا على هذا الأمر العظيم الأجلّ، يقول عبد القدوس الأنصاري: «ولا يعودُ إلى بيته إلا بعد أن تُغلق أبوابُ المسجد النبوي، وحينما يؤوبُ إلى البيت، ليس للراحة يؤوب، فهنا أيضًا طلابٌ ينتظرون دورهم من التدريس، وهكذا إلى نهاية الثلث الأول من الليل» (عبدالقدوس الأنصاري، أعلام العلم والأدب في جزيرة العرب: الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، ص370).
فلم يكن الشيخ يكتفي، ولم يكتف منه تلاميذه، بساعات الدرس الطُّوال التي تبدأ بعد الفجر، إلى بعد العشاء، في التعليم والتَّحصيل والمذاكرة، فجعل من داره مكانًا للتعليم والتدريس، من بعد العشاء، حين انصرافه من درس المسجد النبوي، إلى نهاية الثُلث الأول من الليل، وربما باتوا في منزله الأيام الطوال، كما ذكر ضياء الدين رجب: «كنتُ أصحبُه من بيته إلى المسجد، في صلاة الفجر، وأنا جالسٌ ببيته ليل نهار، وقد يعرفُ بعض الذين صحبوا الشيخ، وناموا في بيته كما نمتْ .. مثل ما عرفت» (ضياء الدين رجب، التربية الخُلُقية في أسلوب شيخنا الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، ص303).
وإلى ذلك، فإنَّ المُقام في دارة الشيخ للدراسة والتعلُّم والمبيت فيها لأيام؛ كان شأنًا مألوفًا عند تلاميذه وقاصديه؛ وذلك من كمال إيمانه بمقتضيات الرِّسالة التي تحمَّل أمانتها، وأدَّاها باريحية والتزام، يقول تلميذه أبو بكر التُّمْبُكتي: «وكانت حياتنا بصحبة شيخنا -رحمه الله- تزخر بالكثير من المعارف التي لا حصر لها، فقد جعل من داره جامعةً دينية، يتلقَّى فيها الطلاب شتَّى الفنون العلمية، من: بلاغة وأدب، ونحو وصرف، وحديث وتفسير، وتاريخ وسِير، ولا تمضي فترة طويلة حتى يتخرَّج فيها الشباب من أبناء المدينة المنورة وغيرهم، يحملون مشاعل النور في البلد المقدَّس، ويتصدَّرون حلقات التدريس في المسجد النبوي على ذلك العهد، حين كان الناس حديثي عهد بالمدارس النظامية، كما كانت هذه الدار بمثابة مأوى للطلاب لا يبرحونها، إلا إلى سفر، أو إلى المسجد، أو إلى المكتبات» ( أبو بكر بن محمد أحمد التُّمْبُكتي، شيخنا بين مدرسة العلوم الشرعية والمسجد النبوي، ص: ح، ط).
ويؤكِّد حديث الشيخ التُّمْبُكتي هذا..عن شيخه الطيِّب الأنصاري، أمرين مُهمَّين:
أولهما: عِظَمَ إيمان الشيخ برسالته العلمية، وإخلاصه في القيام بها على أكمل وجهٍ وأتمِّه، واستغراق تلك الرسالة حياته كلَّها، وكانت (داره) من مشاهد أدائها، وتحوَّلت تلك الدار المباركة، كما يصفُ أحد شهود تلك المرحلة إلى: (جامعة دينية، يتلقَّى فيها الطلاب شتَّى الفنون)، ومأوىً لهم لا يبرحونه، في سعةٍ من كرم الشيخ، وفضل عنايته، وكان ذلك دأب عديد من علماء المدينة المنورة، قبل الطيِّب الأنصاري، ومعه، ومِن بعده، كما أسلفنا.
وثانيهما: الأريحية التي تشكَّلت فيها تلك الحال، فلم تكن دار الشيخ مكانًا للتعليم فقط، بل كانت مأوىً للطلاب ومُستراحًا لهم، في حداثة عهد مجتمع المدينة المنورة بالمدارس النظامية، وقد تخرَّج في تلك الدَّار علماءٌ أجلَّاء، تصدَّروا حلقات التدريس في المسجد الشريف، وكان التُّمْبُكتي مِن أظهرهم شُهرةً وصيتًا، ومِن أوسعهم علمًا، وهو هنا في سياق الحديث عمَّا آتاه الله شيخه الأنصاري من قبولٍ عند الناس، وإقبالٍ من طلبة العلم.
وفي هذه الدار المنيرة بالعلم، والمُجلَّلة بسخاء صاحبها؛ انعقدت ساعات الدرس والتحصيل، موصولة بما قبلها في المسجد النبوي، الذي تنتهي ساعات الدرس فيه بعد صلاة العشاء؛ لتُستأنف في منزله الذي تحوَّلَ إلى مشهد للتعليم والدراسة، والإقامة والمعاش، وكما يصفُ عبد القدوس الأنصاري ذلك الحال، بقوله: «فتحَ باب داره للطَّاعمين والشَّاربين منهم، دون انتظار جزاء أو شكور، اللهم إلاَّ المثوبة من الباري جلَّ وعلا» (عبد القدوس الأنصاري، أعلام العلم والأدب في جزيرة العرب: الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، المنهل، مج21، المحرم وصفر1380هـ= يوليو وأغسطس1960م، ص 248)، وتلك آيةٌ من آيات إخلاصه لرسالته، وصدق تمثُّله إياها، لا يكاد يفتر عنها، ولا يعبأُ بنصبٍ أو جهدٍ يلحقه من ورائها، بالرغم مما مُنِيَ به في آخر حياته وسني مرضه (الثلاث)، من هجر بعض تلاميذه له، وانقطاعهم عن زيارته، كما وصف معاصره محمد سعيد دفتردار تلك الحال، بأسىً مريرٍ، بقوله: «ومرضَ آخر حياته، ولازمه المرضُ ثلاث سنوات، فتفرَّقَ عنه طلابه الذين كان يُؤويهم منزله، ويمدُّ لهم مائدته، إلا المخلصين منهم» (محمد إبراهيم الدبيسي، أعلام المدينة المنورة لمحمد سعيد دفتردار، ص188)، ومن داره العامرة بالعِلم والقِرى، إلى منازل تلاميذه ودُورِهم، التي لم يستنكف عن أن يغشاها، ويزورهم فيها؛ لعمق الأواصر التي تربطه بهم، ورحابة الفضاء الإنساني الذي انعقدت فيه تلك الأواصر والصِّلات بين الشيخ وتلاميذه، على نحوٍ من وصف تلميذه عبيد مدني هذه المَقامات في مُذكِّراته، بقوله: «وقد كنَّا أنا والشيخ عمر بري، والشيخ عبد القدوس الأنصاري، والشيخ إسماعيل حِفْظِي، والشيخ محمد عبد الله المدني، والشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، نجتمعُ برئاسة الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، في كل ليلة ثلاثاء وليلة الجمعة في دارنا التي في السُّوق، أو في دار الشيخ عمر بري في السَّاحة، أو في دار إسماعيل حِفْظي، في زقاق سيدي عبد القادر في السَّاحة، بعد صلاة العشاء إلى ساعة متأخرة من اللَّيل، يقرأُ أحدنا في كتاب الحماسة اختيار أبي تمام، أو في المعلقات، ونتبادل النقاش والبحث في كلِّ بيت، في لغته وأسلوبه وفي معناه، وفي إعرابه، وما قد يكون فيه من نُكات، ثمَّ يتولَّى فضيلة الأستاذ القولَ بما يشفي الغليل، وربما وجَّه بعض الأسئلة إلى بعضنا، فإذا أجابَ ..، سألَ الآخرين، أو خصَّ منهم من أراد، هل كان الجوابصحيحًا أم لا ..؟. وهكذا كنَّا نقضي فترةً من الوقت حافلةً بالمتعةِ وجزيلِ الفائدة»، (إبراهيم المطوع، عبيد مدني حياته وشعره، (المُذكِّرات الخاصَّة) لعبيد مدني، ص45)، وعلى هذا المثال كانت تدور رحى لقاءات الشيخ بتلاميذه، استغراق في القراءة والمذاكرة والتفكير، وإثارة الأسئلة والحوار، وتنمية ملَكَة التذوُّق الجمالي للشعر، وملاحظة الجوانب اللغوية والبلاغية في الأبنية الشعرية. وهكذا عوَّدهم وربَّاهُم على استثمار الوقت في هذه المناشط عظيمة الجدوى، وكسر رتابة المقامات المعتادة للدراسة والتعليم، دون تجاوز إطارها العلمي والأدبي.
والجانب الأدبي في شخصية الطيِّب الأنصاري، وتكوينه بعامة، من الجوانب الأصيلة في ذلك التَّكوين، وفق ما يرويه عبد القدوس الأنصاري، الذي وقف على هذا الجانب عند شيخه، يقول: «وأُوتي قريحةً نقَّادة في الأدب والشعر والنثر، وكان في صدر شبابه يتعاطى قول الشعر في شتَّى ألوانه، وشِعرُه كنثره يمتاز بالسَّلاسة والسهولة والإقناع، وقد هجرَ الشعر اللهم إلا للنَّظْم العلمي، بعد أن تقدَّمت به سفينة العمر في لُجِّي الحياة» (عبد القدوس الأنصاري، أعلام العلم والأدب في جزيرة العرب: الشيخ محمد الطيب الأنصاري، المنهل، مج 6، رجب 1365هـ=يونيو 1946م، ص314).
وكما هو دأبُ بعض علماء عصره، ومَنْ قبلهم؛ لم يول الشيخ مَلَكَة الشعر لديه اهتمامًا، ولم يكن كَلفًا بها، إلا في حدود مقتضيات تدريس تلاميذه، وتكوين شخصياتهم الأدبية والعلمية، وتأليف المَنظُومات العلمية لهم، على الرغم ممَّا شهد له به من قرأ شيئًا من شعره ..، في غير المَنظُومات العلمية، كما هو الحال عند محمد سعيد دفتردار، الذي ترجم للطيب الأنصاري، وأتى على ذِكْرِ شعره، فقال: «أمَّا أسلوبه في الشعر والنثر، فهو واضحٌ جليٌّ، وقد قرأتُ له قصيدةً يمدح بها الشيخ ألفا هاشم، فهي تعبِّر عن مَلَكَةٍ مثاليَّة، ومعانيها في الذُّروة من الكمال»(محمد إبراهيم الدبيسي، أعلام المدينة المنورة لمحمد سعيد دفتردار، ص 187)، وكان الدفتردار شاعرًا وخبيرًا بالشعر، جيِّده ورديئه؛ ممَّا يعني أنَّ الطيِّب الأنصاري أُوتِي مَلَكَة تأليف الشعر الجيد، غير أنَّه صرف تلك المَلَكَة في تأليف المَنظُومات العلمية لتلاميذه، تسهيلًا لفهمها وحفظها، وكما هي عادة العلماء من أمثاله، في الزَّهادة في نَظْمِ الشعر والاهتمام به، إلى الانخراط في رسالة العلم، وبذل الوقت والجهد فيها، وإعداد تلاميذهم إعدادًا علميًا متينًا.
كما كان يحرص في أوقات جلوسه في منزله، على قراءة بعض المُتُون العلمية، في الشريعة واللغة العربية، يقرأُها قراءة الفاحص المُدقِّق، ويدوِّن على حواشيها بعض الملحوظات والتنبيهات، أو بعض الأبيات من شعره، أو من شعر غيره من محفوظاته، ويقيِّد أحيانًا تاريخ قراءته هذا الكتاب، أو ذاك، وتاريخ فراغه منه. وأحيانًا يسجِّلُ ما يثبتُ تملُّكَه بعض الكتب، أو ما أُهديَ إليه منها، أو ما أهداهُ منها إلى أحد تلاميذه، كما فعل مع تلميذه محمد، ابن خاله الشيخ المبارك بن المختار الأنصاري.
يتبع