علي الخزيم
- من أقسى صور الألم النفسي على الإنسان المُسِن أن يرى حفيده أو من هو بسن حفيده يَغمِزه أو يَلمِزه أو ينال من قدراته الجسمية والعقلية؛ مأخوذ بما وهبه الله من صحة الشباب وبهائه، ويغيب عن باله أن هذا الرجل أو المرأة بهذا العمر قد سبقاه إلى ما يعيشه الآن من فورة الشباب؛ وأنه يقف بالانتظار ليعيش مرحلة الشيخوخة إن مَدّ الله بعمره.
- كان لا بد لهذا الفتى أن يُدرك بجلاء بأن كبار السن حين تنحني ظهورهم فإنما هي نتيجة لكفاحهم ومثابرتهم وجهادهم لتربيتنا وتوفير سبل الراحة والحياة الكريمة لنا، وأن هذا الانحناء الوقور إنما كان لرجاحة العقول وتراكم التجارب وتزاحم الحكمة بعقول وقلوب ومشاعر هؤلاء الشيوخ الكرام.
- والشَّيخ بلغة العرب هو ذو المَكانة بعلم أو فضل أو رياسة؛ وشيخ القوم أو القبيلة هو رئيسها القائم على شؤونها، وكان بعض العرب يرون أن مرحلة الشيخوخة تبدأ من سن الخمسين أي فوق الكهل ودون الهرم، على أن واقع الحال يشير إلى أن سن الشيخوخة لم يَعُد مُحدداً بذاك الرقم، وأن مدارك العقل والفؤاد ومُقومات الخلايا الصحيحة لا تخضع غالباً لسن محدد، فكم مُسِن تَشِعّ منه الحكمة وصواب الرأي وسلامة المنطق! يقول الشاعر أبو ماضي:
قال الصبا ولَّى فقُلت له ابتسم
لن يُرجع الأسف الصبا المُتصرِّما
- والشيخوخة بصفة عامة عمل طبيعي خَلقِي يتم بالتدرج مع مراحل عمر الإنسان ويطال الجسم بأكمله؛ غير أن سِمات وعلامات ظهور الشيخوخة تتباين من إنسان لآخر، وهذا فارس العرب وشاعرهم الفحل عنترة العبسي حين رأى بوادر الشيب بعارضه خشي ألا يَروق لعَبْلَة؛ فقال:
ذَنبي لِعَبلَةَ ذَنبٌ غَيرُ مُغتَفِرِ
لَمّا تَبَلَّجَ صُبحُ الشَيبِ في شَعري
- ومن طرائف الأمثال قولهم: من هَرِم اشتكى من غير عِلَّة، ويُشابهه: لا تسأل الهَرِم عن العضو الذي يؤلمه؛ بل عن الذي لا يؤلمه! وعَدَّت العرب مُقدمات الشيب وبعض الإنهاك الجَسدي المتكرر ونحوها إنما هي رسائل ومؤشرات لها مدلولات تُدرَك بوضوح تنبهنا للاستعداد لاستقبال ما يُسمى تجاوزاً خريف العمر، على أني لا أميل لهذا المفهوم؛ فالمؤكد من مشاهدات ومخالطات لأناس بلغوا من العمر ما بلغوا وما زالوا يَقْدحون فِكراً نيّراً وحكمة ناصعة، ويؤيد الرأي الشاعر أحمد الصافي إذ يقول:
سِنّي بروحي لا بِعَدِّ سنيني
فلَأسْخَرَنّ غداً من التسعين
- ومن أشعار العرب وأمثالهم تستشف ميلهم، بل ركونهم إلى أن قلب الإنسان آخر ما يشيخ من أعضائه ومشاعره وإن بَدَت سمات الشيخوخة على المظهر، فالعرب أبدعت بهذا الجانب وسبقت نظريات الفلاسفة ومنطق الغَرب كافة، فالعرب بصفة عامة هم أهل مكارم الأخلاق ومنها تنبثق ملامح الود والتراحم؛ ثم الحب والعشق بألوانه ودرجاته، فقد عاشوه وخبروه وثبت لديهم بأن القلب لا يشيخ، ومن أرقى وأجمل الصور الإبداعية قول البهاء زهير:
وَلَيسَ مَشيباً ما تَرونَ بِعارِضي
فَلا تَمنَعوني أَن أَهيمَ وَأَطرَبا
فَما هُوَ إِلّا نورُ ثَغرٍ لَثَمتُهُ
تَعَلَّقَ في أَطرافِ شَعري فَأَلهَبا)