د. تنيضب الفايدي
الرضا هو ضد السخط، وفي الحديث : اللهم أعوذ برضاك من سخطك...، وهو سرور القلب بمر القضاء أو طيب النفس بما يصيبه ويفوته مع عدم التغير. قال الراغب: رضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمراً بأمره ومنتهياً عن نهيه، وأرضاه: أعطاه ما يرضى وترضاه: طلب رضاه. لسان العرب لابن منظور (4-324).
أما الرضا بالعمل فهو مشاعر الموظف تجاه وظيفته والذي ينتج عن إدراك حالي لِما تقوم الوظيفة بتقديمه له، وإدراكه لِما يجب أن يحصل عليه من الوظيفة. كما أن الرضا عن العمل هو قدرة عمل الفرد على إشباع الحاجات الرئيسية لديه والتي من شأنها أن تشعره بتحقيق الذات، ويضمن التقدير والإنجاز والاحترام والإبداع وتحمل المسؤوليات التي تقدم له من جرّاء قيامه بالعمل ذاته. ويعرف الرضا الوظيفي أيضاً بأنه يمثل حصيلة لمجموعة العوامل ذات الصلة والعمل الوظيفي والتي تقاس أساساً بقبول الفرد ذلك العمل بارتياح ورضا نفس وفاعلية بالإنتاج نتيجة للشعور الوجداني الذي يمكن للفرد من القيام بعمله دون ملل أو ضيق. وكلما يكون المرء راضياً عن عمله تولدت لديه مشاعر نحو العمل إيجابية مما تؤدي إلى زيادة الإنتاجية، ويعتبر الرضا بالعمل أحد الموضوعات التي حظيت باهتمام الكثير من علماء النفس، لأن معظم الناس يقضون جزءاً كبيراً من حياتهم في العمل، وقد أظهرت بعض نتائج البحوث بأن الأفراد الراضين بالعمل يعيشون حياة أطول من الأفراد غير الراضين، وهم أقل عرضة للقلق النفسي وأكثر تقديراً للذات، وأكبر قدرة على التكيف الاجتماعي، حيث إن الرضا بالعمل يؤدي إلى نتائج إيجابية ومرغوبة تساهم في خلق أجواء جميلة وصحية. وقد حثّ الإسلام على العمل والكسب الحلال، قال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده). رواه البخاري.
وقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم عناية فائقة بالعمل، بل قدم نموذجاً عملياً لأحد الأنصار من صحابته حين جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم حيث حثه على العمل فقال : «أما في بيتك شيء قال بلى حِلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده قال: من يشتري هذين، قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال : من يزيد على درهمين مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتني به فأتاه به، فشدّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً. فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة». رواه أبو داود. كما كان الكسب الحلال بالعمل من أعمال الأنبياء ، فكلهم رعوا الغنم، ومنهم النجار والحداد والخياط، وهكذا الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وحول موضوع (الرضا بالعمل وتغير بعض المفاهيم) فقد عمل الكاتب معلماً في المرحلة الابتدائية بدايةً من عام 1391هـ، ووضع خطة بمتابعة الطلاب بحيث يكون لكلّ طالب صفحة يُذكر فيها أهم البنود التي تخص الطالب، ومنها الوالد وعمله، وكان عدد كبير من المجموعة لا يجيدون كلمة العمل، فمنهم من يقول إنه (يشتغل)، ولا يذكر نوع ذلك العمل، وقد شاع بين الناس أن الجزار والكناس والطباخ ونازح بيارات الحمامات لا يذكرون ذلك العمل؛ لأن المجتمع يقلل من قيمة أفعال هؤلاء، وكنت أروي لهم أهم الشعراء والأدباء الذين يفتخرون بآبائهم ، علماً بأن عمل هؤلاء الأدباء لا يتفق مع شهرة الشاعر، وضربتُ لهم الأمثلة، مثل الشاعر جرير كان يفتخر بأبيه ويدافع عنه حيث مرّ جرير مع آخر فرأوا أحد الرعاة يمس (ثدي الغنم)، وقال جرير لمن معه هذا أبي جادلت شعراء كثيراً حوله وغلبتهم، ومنهم الفرزدق الذي قال في أبي:
فَلَئِن فَخَرتُ بِهِم لِمِثلِ قَديمِهِم
أَعلو الحُزونَ بِهِ وَلا أَتَسَهَّلُ
إنّا لَنَضرِبُ رَأسَ كُلّ قَبِيلَة
وأَبُوكَ خَلْفَ أتَانِهِ يَتَقَمّلُ
فردّ عليه بما أسكته وقد تغيرت هذه المفاهيم التي ذكرتها سابقاً حالياً حيث تم زواج (شيف) وتناقلت النساء اللاتي حضرن هذا الزواج عمل العريس وأنه من الأعمال التي تتمناها كلّ أم أن يكون لزوج ابنتها أو خطيبها يحمل هذه الصفة (شيف)، مع أن الكلمة معناها الطباخ الذي كان المجتمع لا يقدره، ولكن المفاهيم تغيرت فكان الكناس من أهل كلّ بلد، ولا توجد شركات النظافة مثل الآن وانتهى دوره في نظافة البلد، أما من كان ينزح بيارات الحمامات فقد أصبح الآن مطلوباً، بل إن الصرف الصحي لكلّ مدينة يديره مختصون من خريجي الجامعات ومطلوب من قبل الشباب، عكس ما كان سابقاً، فالمفاهيم تغيرت الآن وأصبح العمل في كل مجال مطلوباً، سواءً بالطباخة أو الصرف الصحي أو تنظيف المدن وبجميع مجالات النظافة، فالعمل مطلوب ما دام يساعد على تحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقلال المالي.