د. عبدالحق عزوزي
هناك إشكالية يطرحها العديد من الباحثين والطلبة ومراكز الأبحاث الجادة في مجال الدراسات الاستشرافية المستقبلية ألا وهي المنهجية العلمية التي يجب اتباعها مقارنة مع العلوم الاجتماعية مثلا. إذ لا يخفى على كل لبيب أن الأكاديمية والعلمية في العلوم الاجتماعية تتطلب من الباحث مسارا فكريا ومنهجا دقيقا في الدراسة، كما أن عليه أن يستحضر مفهوم العلم كعلم والذي لا يخرج على ثلاث خاصيات أساسية: 1) فالعلم هو علم مركب بمعنى أنه تمثيلية سببية وموضوعية للحقيقة؛ والخاصية الثانية هي أن نتائج العلوم أيا كانت يمكن أن تفند. فالعلم هو الحقيقة الفعلية للظاهرة التي تنحو نحو التأكيد، ولكن مع ذلك لا يمكن لنتيجة علمية أن يدعي صاحبها أنها الحقيقة المطلقة أو أن تحتكر تلك الحقيقة، والحقيقة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى وحده؛ أما الخاصية الثالثة فهي أن العلم هو علم منشئ، بمعنى أن الهدف الأول والأخير لأي علم هو تنمية المجتمع والسعي الدؤوب لتطويره وتنميته.
أما بالنسبة للدراسات الاستشرافية المستقبلية، فالباحث في هذا المجال ينطلق في يقيني من مفهوم العلم هذا ومن المرحلة الأخيرة التي يصل إليها الباحث في العلوم الاجتماعية، بمعنى أنه تكون له القدرة على فهم وتحليل علمي للظاهرة المجتمعية قبل أن يغبر أغوار المستقبل.
وكما يعلم كل متتبع حصيف، فإن أهم مراكز الأبحاث الدولية في الدول الغربية تمارس هذا النوع من الرياضة الفكرية، وتبلور أفكارا أصيلة، وتقدم خيارات سياسية متعددة، كما أنها مع مرور الوقت تكون خزاناً من الخبراء المتمكنين يمكن أن يوضعوا رهن إشارة أصاحب القرار. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تسهم مراكز الأبحاث والدراسات في تداول النخب، حيث تجد الإدارات المتعاقبة رهن إشارتها أناساً خبراء تعيّنهم في مراكز القرار....وهاته المراكز في بعض الأحيان تكون «جامعات بدون طلبة»، لأنها تستعين بباحثين من حملة شهادة الدكتوراه وبمتخصصين في مجالات دقيقة، يطالَبون بإنجاز دراسات وفق الشروط والمعايير الأكاديمية والعلمية، وهي مراكز تعمل على بلورة دراسات جادة تطلبها منها مؤسسات عمومية....
والدراسات الاستشرافية المستقبلية بوصفها آلية للتخطيط تهدف أولاً إلى صياغة براديغمات وأطر فكرية لتحديد طبيعة المشاكل والتحديات التي تواجه البشرية أو التطور الإنساني في المستقبل، وثانياً إلى توجيه قرارات القادة السياسيين ووضع حلول وبدائل مستقبلية، ويتم ذلك خلال استعمال الكثير من التقنيات المستقبلية لترشيد عملية التخطيط انطلاقاً من تحديد المشكلة إلى غاية مرحلة التنفيذ والتقييم كتقنية السيناريوهات وتقنية دلفي، وتقنية التنبؤ وتقنية المحاكاة وتقنية نظرية المباراة وبحوث العمليات ونظم المعلومات.
المراكز البحوثية الكبرى في الدول المتقدمة التي تقوم بهاته الأعمال المستقبلية تستفيد من مساحة الحرية التي تنشط فيها، وتتبع براديغمات عقلانية وتجعل من مصلحة البلد غايتها، ولها رؤية مستقبلية في بنيتها تطغى عليها النظرة الإيجابية إلى المستقبل، كما أنها تستفيد من قوة المناهج والأسس النظرية في شراكة استراتيجية مع المجتمع ومع صانع القرار وتستفيد من قوة البحث العلمي ومكانة جامعاتها ومؤسساتها الفكرية والتربوية، وتقوم بتجذير التقاليد الديمقراطية للبحث العلمي الذي يُسهم في تنمية المجتمع أياً كان التخصص... وتعمل تلك المراكز في إطار من تقاليد العمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي وقبول الخطإ والتقييد، كما تعتمد في إطار دراساتها المستقبلية على وفرة المعلومات وسعة صدر صاحب القرار وعلى تقنيات تمكّن من توسيع مساحة المشاركة في البحث....
ثم إنك لو خضت في كل السياسات العمومية الناجحة في الدول الصناعية الكبرى لوجدتها وليدة دراسات استشرافية أثرت على صانع القرار ومنحته الأرضية الفكرية اللازمة والسيناريوهات الممكنة؛ وهو بتواضعه وذكائه كيفها في سياسات وقرارات وتوجهات تتعدى مصالحه السياسية الضيقة، لأنه يشتغل لمصلحة البلد وللأجيال الحاضرة والمقبلة؛ ورجل الدولة هذا قد يأخذ قرارات تخالف قبيلته السياسية، ويتبنى توجهات لا يمكن أن ترى بالعين المجردة. فتأثيراته يمكن أن لا تظهر في المراحل الأولية أو الأنماط الجديدة للعمل ولكن تظهر في النجاح النهائي للعمل بأكمله... وما تتيحه له الدراسات المستقبلية هو عملية التنبؤ العلمي واستشرافه للمستقبل ووضع الحلول الممكنة التي تسمح بعملية التنفيذ الدقيق للافتراضات غير المرئية وغير المعلنة، والانسجام السلس للنشاط في مجمله، وهذا طبعا لا يصبح جليا إلا عند تحقيق النجاح النهائي.