د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
عرفت الصديق الزميل الدكتور فهد بن عمر بن فهد بن سنبل في صيف عام 1974م حين جمعتنا محاضرة أسبوعية يعلمنا فيها الدكتور حسين نصار علم تحقيق المخطوطات، كانت هي المحاضرة المشتركة بين طلاب فرعي اللغة والأدب، كنت المبتعث الوحيد من جامعة الملك سعود على غير العادة في ابتعاث المعيدين إلى جامعات غير عربية، وكان معظم الزملاء من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكانوا يسكنون جميعًا في حي مدينة الإعلام، أما أنا فعشت في حي الدقي أول أمري حتى استقر بي المقام في حي مدينة المعلمين، وكان من كرم الزملاء من جامعة الإمام أن دعيت غير مرة إلى لقاءات لهم عامة أوخاصة، وازدادت اللقاءات بعد زواجي فانتظمت في الزيارات الدورية، كانت هذه الزيارات مجالًا للحوار والنقاش والجدل حول كثير من مسائل العلم والفكر، وبرز فيها فهد سنبل كما نسميه اختصارًا أو أبوعبير حينًا ثم أبوعمر، كان قوي الحجة صلبًا لا يلين أو يقنعَ خصمَه، وهو صريح صراحة شديدة ربما أزعجت من لا يعرفه حق المعرفة، وقد استفزني غير مرة بصراحته ونقده عليّ أحيانًا، وعُرف فهد بيننا بكثرة قراءته وسعة اطلاعه، تعلمت منه كثيرًا، سمعني مرة أقول (أشوى) فقال إنهم في الدلم يقولون (أشلى)، وجاء مرة حديث عن كتاب ابن المعتز (البديع) فبين لي أن المقصود بالبديع الشعر الجديد في العصر العباسي لا علم البديع المعروف في البلاغة العربية.
درس فهد في المعهد العلمي في مدينة الدلم، أو (الخرج) كما قال لي وأن ما يسمى اليوم الخرج هو (السيح)، تخرج في المعهد فكان ترتيبه الثاني على مستوى المملكة، وصقلت معارفه بتجربة تعليمية مبكرة حين استثمر العطلة الصيفية عام 1387هـ فأسس هو وعبدالرحمن بن صالح بن سنبل مدرسة أهلية لتدريس الطلاب المكملين(1) [أي الراسبين ببعض المقررات ويحق لهم اختبار ثان في نهاية العطلة الصيفية]، وشارك أيضًا في التدريس في الفصول الصيفية التي عقدها نادي الشرق بالدلم(2).
انتقل إلى الرياض لينتظم في كلية اللغة العربية وتخرج فيها بتقدير جيد جدًا في العام الدراسي 1393هـ، وعُيّن معيدًا فيها 6-8-1393هـ-3-9-1973م، ثمّ ابتعث لدراسة الماجستير: 17-11-1394هـ -1-12-1974م، على وعدٍ أن يجدد له لمرحلة الدكتوراه.
كان فهد مثل بقية زملائه من طلاب جامعة الإمام الذين تأسسوا تأسسًا تراثيًّا قويًّا؛ فقد هيئ لهم أن يدرسوا النحو مرتين، أولاهما في المعاهد العلمية بقراءة شرح بن عقيل وأخراهما في كلية اللغة العربية بقراءة أوضح المسالك لابن هشام، وكان هذا الأساس القوي وما ثقفه بعد بكثافة قراءته وبجودة تلقيه وحسن تخيّره؛ كان ذلك كلُّه ما هيّأه لمعالجة موضوع بحثه لمرحلة الماجستير «النقد اللغوي للشعر في القرن الثالث الهجري»، لم يكتف بما لديه من كتب بل احتمل من مكتبتي كثيرًا من المعاجم وكتب اللغة، وعكف عليها حتى اكتفى ثم ردّها ردًّا جميلًا، وشهدت مع غيري مناقشة رسالته، ولا أنسى إشادة الدكتور جابر عصفور بأفكاره وبلغة كتابته، وكان المشرف على الرسالة هو أستاذنا القدير المحقق المدقق الدكتور حسين نصار، واجتاز فهد بتقدير ممتاز بتاريخ 7-12-1399هـ - 28-10-1979م، وحاول أن يحصل على التمديد لمرحلة الدكتوراه، وكان أن كتب لجامعته في ذلك؛ ولكن الجامعة قد افتتحت برنامجًا للدراسات العليا، وأرادت أن تستقطب له أنجب أبنائها، وكان فهد من أنجبهم وأعلاهم قدرًا؛ ولذا لم تمدد له، وطالبته بالعودة، وسافر فهد لمقابلة مدير الجامعة؛ ولكنها مقابلة لم تحقق غرضها؛ فقد كان الوعد الذي وُعده شفاهيًّا غير ملزم لأحد، وهكذا عاد فهد إلى القاهرة وقد قرَّ قراره على مواصلة دراسته؛ لأنه أراد متابعة مشروعه الذي بدأه مع مشرفه؛ ولأن لابنته عبير ظرفًا صحيّا دقيقًا يقتضي مراجعة طبيب خاص كل أسبوع، وهذا ما لا يضمن تحققه في الرياض في تلك الأيام، فكان إنهاء العمل بجامعة الإمام في تاريخ 25-1-1400هـ- 14-12-1979م. وأسعده على مواصلة دراسته مساعدة أحد أصدقائه له بنفقة عام كامل، فسجل لمرحلة الدكتوراه في 1-5-1401هـ- 6-3-1981م برسالة «النقد اللغوي للشعر في القرن الرابع الهجري» بإشراف الدكتور حسين نصار.
نشأت مع الأيام بيني وبين زميلي فهد صداقة قوية وألفة صادقة، تعززت بعد عودة معظم طلاب الجامعة بعد انتهاء دراستهم، كنا في تلك الأيام ثلاثة أنا وفهد والمرحوم عبدالعزيز الزير، كنا نقضي سحابة النهار في العمل البحثي الجاد حتى إذا حل المساء قصدنا مقصف أحد الفنادق وكان في الغالب (فندق مريديان) نتعشى عشاءًا خفيفًا ونتبادل الأحاديث ونتناقش في مسائل الفكر والأدب واللغة.
ناقشت زوجتي (أم أوس وسمية المنصور)- رحمها الله- رسالتها قبلي وسافرت إلى الكويت وتعينت أستاذة هناك فعميدة كلية، وكنت أراوح في أيام إقامتي بين الكويت والقاهرة، وفي يوم اتصل بي فهد من القاهرة يستشيرني في أمر؛ إذ كان زميلنا الشيخ الجليل الدكتور حسن بن عمر فلّاته خاطب جامعة الملك عبدالعزيز بشأن فهد مبيّنًا لهم قدره وتمكنه العلمي فرحبت الجامعة به ووعدت بابتعاثه، اتصل زميلي فهد يطلب رأيي في ذلك أيقبل أم لا، فقلت والفرح يملأ جوانحي: اقبل بلا تردد فالمسألة مسألة دخل تقيم به أود أسرتك، وكان أهمَّه أن الجامعة ليست في الرياض وأن عليه أن يعمل في مدينة غيرها، على أنه سمع قولي وقبل، فكان تعيينه على وظيفة محاضر في 12-8-1403هـ- 24-5-1983م بجامعة الملك عبدالعزيز بكلية التربية في المدينة المنورة، وكنت ألححت على صديقي فهد أن ينشر رسالته، وكان زاهدًا بالظهور، ولكن أشفقت من أن يحرم طلاب العلم مما فيها من جهد عظيم، واقترحت عليه أن يقدمها لمكتبة الخانجي لعراقتها فكان أن تقدم بها؛ ولكنهم عرضوها على الشيخ محمود شاكر فلم يوص بطباعتها، ولم يبين لذلك علة مقنعة، وطُوي أمر نشر الرسالة ومضت سنوات طويلة وتذكرت أمرها وأنا في زيارة لأستاذنا الشاعر المبدع الدكتور عبدالله بن سليّم الرشيد، تكلمنا عن فهد وذكرت له القصة فلمت نفسي أني لم أعاود المحاولة لنشرها والتفاوض مع تلك الدار أو غيرها.
اتصل بي فهد مرة أخرى، وأنا في الكويت، وهو في غاية الأسف والانزعاج، قال لي كنت اليوم في المكتب الثقافي وعلمت منهم أنهم بصدد إنهاء بعثتك، فانظر ما تصنع. نزل الخبر علي كالصاعقة فتوجهت إلى الرياض لمعالجة الأمر، وكنت أنهيت كتابة رسالتي غير أن أستاذي طالبني بباب إضافي، وكنت تقدمت بطلب تمديد لبعثتي، كاد أمر بعثتي يبتّ به لولا لطف الله ومعاضدة القسم والكلية وثقتهم بي ونجاح مقابلتي مدير الجامعة الدكتور منصور التركي. ومنّ الله عليّ بعدُ باجتياز المناقشة والعودة إلى أرض الوطن، أما فهد فظل يكمل عمله في القاهرة بتأن وصبر ودقة لا حدود لها.
كانت سمعة فهد العلمية قوية في جامعة القاهرة، وكان مشرفه الدكتور حسين نصار عميد الكلية يثق به ثقة متينة، فكان يكلّفه قراءة بعض البحوث التي تقدم بها أصحابها من العالم العربي للمشاركة في مؤتمر طه حسين، حكى لي فهد كيف أنه كان جالسًا في غرفة العمادة مكبًّا على بحث يقرؤه بعناية ودقة؛ فإذا بمن يقف عليه بسلة ملئت بالشكولاتة يدعوه إلى تناول شيء منها، وفهد منغمس في عمله يرفع كفه بالنفي؛ ولكن الإلحاح متواصل، ولم يرفع رأسه حتى ناداه العميد: يا فهد ما تأخذ، فرفع رأسه فإذا جيهان السادات، كانت تحتفل بدرجة الماجستير التي نالتها من القسم.
أنهى فهد رسالة الدكتوراه، واجتاز بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى في تاريخ 17-9-1407هـ- 15-5-1988م، وقدمنا أنا وأخي محمد إلى القاهرة لنشهد مناقشته ولنحتفل به بعدها في (فندق المريدين). ثم باشر عمله أستاذًا مساعدًا في جامعة الملك عبد العزيز في 24-4-1408هـ، وبعد سنوات أبلغني برغبته في الانتقال إلى جامعة الملك سعود، فتقدمت بأوراقه إلى عميد الكلية أستاذي الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري، فلما اطلع عليها وافق على ذلك وتيسر أمر قراءة رسالتيه وكتابة تقرير عنهما وكان ممن قرأهما أستاذنا الجليل عبدالله الغذامي، ونقلت خدماته إلى جامعة الملك سعود في 23-2-1411هـ، وظل يعمل في القسم إلى أن تقاعد في 1432هـ.
اكتسب الدكتور فهد محبة زملائه لدماثة خلقه وهدوء طبعه، وناله تقديرهم لمكانته العلمية ولجودة تدريسه، ولذلك استعان به بعض الأساتذة ليكون مشرفًا مساعدًا، منهم د. محمود جبر الربداوي المشرف على رسالة المعيد في القسم ماجد بن محمد بن عبدالله الماجد، وهي «البحث البلاغي عند ابن جني» التي نوقشت في 1415هـ، 1994م. ويذكره بخير من عرفه من طلابه النابهين، فهذا زيد بن علي الدريهم يكتب «كانت بدايتي بمعرفة الدكتور فهد منذ كنت طالبًا في المرحلة الابتدائية وهو طالبٌ في معهد الدلم العلمي، وكان من الدفعة الأولى في المعهد، وعند حصوله على ثانوية المعهد كان ترتيبه الثاني على مستوى المملكة، وكانت تربطه بخالي زيد بن سليمان الدريهم علاقة وطيدة بحكم الدراسة سويًّا في المرحلة الابتدائية، ثم ازدادت علاقتي به بسبب علاقتي بأخي وزميلي سعود العييد (ابن أخته) في المرحلة المتوسطة والثانوية، وكان يعاملنا معاملة تربوية وكان موجهًا لنا يحثنا على الجد والاجتهاد وحب طلب العلم، ونتواصل معه دائمًا في الإجازات الأسبوعية والصيفية عند زيارته لأهله في الدلم، وكان حديثه شائقًا ممتعًا، وكان في ذلك الحين طالبًا في كلية اللغة العربية في الرياض، وبعد تخرجنا من الثانوية استقبلنا في بيته هو وصديقه عبدالعزيز العديني برحابة صدر وساعدنا ووجهنا بالقبول في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود الآن)، ومن نعم هذه الحياة أن منح المولى الدكتور فهد رحابة الصدر والاستئناس بمن حوله من أقاربه ورفاق دربه في مضمار الحياة، ولقد منحه الله روحًا شفافة وإحساسًا متذوقًا للأدب الرفيع ومشاعر مبدعة وفياضة وموهبةً تذوب فيها المعاني لما يملكه من باع طويل في مجال اللغة العربية وآدابها»(3)، وهذه (الجوهرة آل جهجاه) تدعو إلى استعمال «نظرية القراءة والتفكير النقدي الأدبي الحديثة (نقد النقد) (Metacriticism) بمنهجيتها التي ما زالت تُبنى، وقد تعلّمْتها - للمرة الأولى- وتحصّلتُ على بعض مصادرها من الأستاذ الدكتور: فهد بن عمر بن سنبل -رعاه الله وأثابه-»(4). وكتب فيصل سعد الجهني عن قسم اللغة العربية، وأجتزئ من قوله «ويمكن أن يمثل قسم اللغة العربية صورة متألقة لبقية الأقسام الأخرى في الجامعة. كان قسم اللغة العربية في كلية آداب جامعة الملك سعود قسمًا فاخرًا بجد فاخرًا بكل المقاييس الأكاديمية والمعرفية والثقافية. كان ذلك الفضاء الباهي يجمع أقطاب العلم والثقافة الذن نهضت بهم بلادنا عامة. د.منصور الحازمي صاحب حكاياتنا المحلية المبكرة مع الأدب وفنونه، ود.عبدالعزيز الفدا ببهائه وهيبته وعذوبة حديثه عن (أبي حيان التوحيدي..أتذكر!) بإسقاطات تاريخية ذكية، وأستاذ النظرية الأدبية الناقد المعروف د.عبدالله الغذامي، ود. فهد سنبل أستاذ النقد الحديث وموسوعة الكتب المؤلفة في كافة المناهج النقدية»(5).
الدكتور فهد وزميله صديقنا الدكتور عبدالعزيز الزير -رحمه الله- هما على تمكنهما وعلو كعبهما في تخصصهما يضيّقان على أنفسهما تضييقًا شديدًا ويتحرجان من الكتابة والنشر؛ لأنهما لا يرضيان عمّا يكتب كل الرضا، فليس لفهد في حدود علمي سوى الرسالتين رسالتي الماجستير والدكتوراه، وبحث واحد شارك فيه في ندوة القسم (قضايا المنهج في الدراسات اللغوية والأدبية: النظرية والتطبيق) في 21-24-3-1431هـ الموافقه 7-10-3-2010م، وعنوانه «مصطفى ناصف: من البلاغة إلى البلاغة»، نشر في كتاب الندوة، جامعة الملك سعود، الرياض، 1431هـ-2010م، ص571. وآمل أن ترى النور رسالتاه قريبًا.
**__**__**__**__**__**
(*) أشكر الأستاذ المهندس سعود بن عبدالعزيز الزير، والأستاذ يزيد بن حمد المسلم لمدّي ببعض المعلومات التوثيقية.
(1) وقفة مع الذكريات لزيد بن علي بن زيد الدريهم، ط1، 1441هـ، ص17.
(2) وقفة مع الذكريات لزيد بن علي بن زيد الدريهم، ط1، 1441هـ، ص18. ذكر في الحاشية بخط من صور الصفحة.
(3) وافاني بهذا النصّ سعود بن عبدالعزيز الزير.
(4) انظر: «التفكير الفطري: اقتراح لتطوير تدريس المناهج التعليمية في المملكة العربية السعودية»، نشر في صحيفة الجزيرة في الجمعة 5 جمادى الآخرة 1425هـ/ 22 يوليه 2004م-ع11621.
(5) انظر: «دكاترة (حقيقيون) و(تعليم حتى الموت)»نشر في، صحيفة المدينة، 22 نوفمبر 2011م.