سهام القحطاني
قبل الإسلام لم يعرف العرب البلاغة «كمنهج فكري» بل ظلت في خطابهم التداولي مجرد «حِلية بيانية»، لكن بعد الإسلام وارتباط البلاغة بالإعجاز اللغوي و العلمي للنص القرآني، اختلفت مكانة البلاغة في جودها الفكري؛فلم تعدّ مجرد في نظر العرب حِلية بيانية ،بل أصبحت جزءًا من الإعجاز القرآني أي غاية في ذاتها وليست وسيلة إيضاح أو تأثير انفعالي توجز الفهم، وبذلك تحولت البلاغة من كونها زخرفة بيانية إلى بنية فكرية في ذاتها لا يستقيم ظهرالخطاب إلا بها.
وهذا التحوّل الجديد لبنية البلاغة الذي لم يستوعبه العرب في البداية وتجاوز فهمهم المعتاد للبلاغة؛ إذ لم يكونوا أصحاب تطبيقات فكرية؛ أضرّ بالمفهوم الجديد للبلاغة الذي خلقه لها الإسلام فحبسوها في «قالب ديني» ، ومع العصور قُلّمت أطرفها الفكرية وتحوّلت إلى «قوالب تصنيفية»، ولعل هذه النتيجة لم تكن مقصودة عند العرب، فارتباط البلاغة بفهم النص القرآني وأهمية هذا الارتباط بصحة المعنى أو خلله هو الذي جعل علماء العرب الأوائل حريصين على ألا تُمدّ يد التأويل الفكري أو العقلي إلى حيثيات البلاغة.
وهذا الحرص ينقلنا إلى الإشكالية الكبرى التي تكاد تشترك في كل صراع فكري يتعلق بعلوم الدين بين علماء الإسلام و مفكريه،وهي إشكالية «النقل و العقل».
و البلاغة لم تسلم من هذه الإشكالية، فمنطقة البلاغة على غرار المنحى اليوناني وفلسفتها تعني جرّ البنية البلاغية إلى انزياحات استبدالية قد تخلق فهما معارضا للفهم الأصلي،ولحماية البلاغة من هذا التطرف الانزياحي دخل رجال الدين في معارك مع المتكلمين من جميع الأطياف.
لقد آمن رجال الدين الأوائل ممن يتبعون مدرسة التفسير النقلي بأن البلاغة في القرآن هي وسيلة إيضاح مساندة للفهم عبر آليات التمثيل و المحاكاة و التقارب،وهو ما جعل البلاغة دوما في دور التابع إما للغة أو للنحو،هذا الدور الذي منعها من تكوين بنية فكرية مستقلة الذمة المعرفية بعيدا عن كونها المتمم لدلالة اللغة أو لمعنى النحو.
وكان ظهور علم الكلام بداية لإعادة اكتشاف البلاغة في بنيتها الفكرية، فلم تعد البلاغة عند علماء الكلام مجرد بنية بيانية «تتمثل من خلال «الصيغة اللفظية» بل هي أيضا استدلال عقلي ومضمون معرفي، وسياقي حجاجي هذا التحول كان حاصل تأثر العرب بأرسطو.
وهذا ما فهمه علماء الكلام من الباطنيين و المعتزلة،لكن ما لبث هذا الاتجاه بتطرفه التأويلي أن أخرج البلاغة عن مقصدها الرئيس المتمثل في كوتها بنية تكوين للخطاب وليست خطابا في ذاتها.
فتطبيق قوانين المنطق على علوم اللغة وخاصة البلاغة و النحو أفرد مساحة واسعة أرهصت فيما بعد لبناء الخطاب الفلسفي الإسلامي،وهو توسع أضر بدوره ببنية البلاغة إذ حمّلها منطقه الأيديولوجي وهذا التحميل كان غالبا يُقوّل البنية البلاغية ما لا تحتمل،كما أخرج البلاغة من هدفها الأول كمحرك للخطاب التداولي؛ بسبب الغموض الذي لفّ نصوص أصحاب علم الكلام،ولم يسلم الشعر من هذا الأثر.
وهذه السيطرة للجانب البياني لوظيفة البلاغة على الخطاب الأدبي في العصر العباسي أغرقته في بحر من الصنعة ثم الغموض، على آثاره تجمّد الجانب الفكري للبلاغة لكونها وظيفة برهان وفكر، وخاصة بعدما تطرف الخطاب الفلسفي في استغلال هذين الجانبين للبلاغة.
ولم يتوقف الأمر هنا بل أصبح استثمار هذين الجانبين هو نوع «السفسطة».
وموجز القول هنا أن الخطاب الفلسفي الإسلامي كان بإمكانه أن يصنع «نظرية لفلسفة البلاغة» لكنه فشل بسبب مزج البلاغة كنظرية معرفية بعلم الإلهيات، بل ولا أبالغ بالقول أن دخول علم الإلهيات كان من أسباب ضعف الخطاب الفلسفي الإسلامي.
فالخطاب الفلسفي مبني على «منطقة الغيبيات» التي لا تستدل عل ثوابت أو قرائن،و تطبيق هذا المبدأ على غيبيات الإسلام مثل الذات و الاسم و الصفة في مدلولها الإلهي لا ينطبق على مفهوم الغيبي البحّت؛ لأنه قائم على ثابت بفعل يقين الإيمان الذي لايشترط الرؤية في رمزيتها العقلية،وحاضر في منظومة من القرائن البرهانية وآليات حجاجية تتفق مع جوهر الدلالة.
وهذا الإسراف والتطرف و الاستغلال لخلفيات البلاغة و تهديده في الفهم الصافي للنص القراني،جعل رجال الدين يحيطونه بسياج متين بحيث لا يسمح لأحد بالدخول إليه سوى رجال الدين أنفسهم،وهذه الإحاطة جمدّت علم البلاغة وحصرتها على منابر الخطب، حتى العصر الحديث.
وفي العصر الحديث ومع ظهور النظريات المعرفية المختلفة بحث علماء العرب على نظرية مناسبة لإحياء علم البلاغة في مضمونه الفكري،فكانت النظرية الأسلوبية هي الأقرب للتمازج مع علم البلاغة، وأُلف في هذا التقارب مؤلفات مثل: كتاب «الأسلوبية و الأسلوب» لعبد السلام المسدي، وكتاب «البلاغة و الأسلوبية» لمحمد عبدالمطلب.
فقد رأي المسديّ أن «الأسلوبية وليدة البلاغة،و وريثتها المباشرة،»،فلا ينفك «الواقع اللساني يقر بأن ا لأسلوبية إنما هي وريثة البلاغة،».-الأسلوب و الأسلوبية ص42
وكان لظهور نظريات التلقي و التحول من لغويات اللسان إلى لغويات الكلام،» وإبراز ظواهر العلاقة بين المرسل و المستقبل في إطار التداولية، ما لفت أنظار كثير من اللغوين إلى البلاغة،..بوصفها علما عاما للخطابات»-محمد عبدالمطلب-البلاغة و الأسلوبية،32.
هذا المنحى الجديد لرؤية البلاغة القديمة دفع المهتمين إلى إنشاء روابط مشتركة بين البلاغة القديمة والنظريات اللغوية الجديدة مثل «السياق
والمقام،و الجوانب التداولية للخطاب،وما تقتضيه البلاغة القديمة من جوانب أخرى،تتصل بالخطاب كآليات التأثير والإقناع و غيرهما».-السابق-
وبسبب أن الأسلوبية بقيت ظلا للنظرية اللسانية لا ذمة فكرية مستقلة لها،وكأن التاريخ يعيد نفسه بالنسبة للبلاغة التي كانت ظلا للغة و النحو ،لم تسطع البلاغة في زيها الجديد-الأسلوبية- أن تكوّن لنفسها نظرية مستقلة، تزاحم بها في معترك النظريات الفكرية،لتظل شجرة بلا ظل حتى إشعار آخر.