د.محمد الدبيسي
آثار الطيب الأنصاري العلمية:
لم يكن الطيِّب الأنصاري معنيًّا بمسألة التأليف وإصدار الكتب؛ على نحو ما يفعله بعض العلماء من أنداده، ولم يكن له إنتاج علمي ينقطع له ويعكف على إعداده، ويبذل فيه الجهد المُضني، ولم يترك مُدَوَّناتٍ مرجعيَّة تُضاهي وزنه العلمي، أو تُعبِّر عن تضلُّعِه في المعارف التي كان يُتقنُها، أو يُدرِّسها لطلابه، وتبحُّره فيها، وذلك لأسبابٍ وحيثياتٍ بسطنا الحديث حولها، في مستهلِّ ما أوردناه في حديثِ تلاميذه عنه، وذكرنا معتقد الشيخ الرَّاسخ في هذا الأمر، واختياره العناية بتلاميذه، وتوجيههم الوِجْهة التي كان يختارها لهم أحيانًا؛ لمعرفته بهم، وإدراكه سرائر أمرهم، وحقائق عزمهم.
ولا جرم أنَّ الشيخ قد حاز علمًا زاخرًا، وأحاطَ بمعارف جمَّة، وأصابَ قدرًا كبيرًا من علوم الشريعة بأُصولها وفروعها، ومن علوم العربية وفنونها، ولكنَّه ازوَرَّ عن التَّأليف، ولم يكن مُغرمًا به، أو مشغولًا بقضاياه، فانقطع للتعليم وحده، واهتَمَّ ببناء عقول تلاميذه وتنمية مَلَكَاتهم، وشُغِلَ بتأصيل معارفهم، وتجويد إعدادهم علميًّا في العلوم الدينية والعربية.
وتوجَّه بمُصَنَّفَاته التعليمية نحوهم؛ يَنظِمُ لهم الـمُتُون ويشرح المَنظُومات، ويختصر المؤلَّفَات الكبيرة والـمُصَنَّفات المرجعية، وكانت بُغيته الرئيسة من مُؤلَّفَاته؛ تعليم تلاميذه، وتسهيل إيصال الـمُتُون إليهم، وتقريب مبانيها ومعانيها لمداركهم، وأفهامهم.
ولذلك غاب الـمُكَوِّن التأصيلي في مؤلَّفَات الأنصاري بعامَّة، ليس عجزًا من الأنصاري عنه، وآية ذلك وشاهده رسالته العَقَدية الـمُوجزة: (الدلائل اليقينيَّات)، التي يَظهر فيها ملامح من قدرته العلمية على التأصيل المنهجي للمسائل، ونفوذ النظر، واستحضار الأدلة، وسَوقِ الشَّواهد، وسلاسة العرض وعمق التحليل، ودقَّة الاستنباط، والخُلوص إلى النتائج، وما إلى ذلك من صنائع العقل النَّاقد، والفكر الرشيد.
كما يُبرِزُ إلمامه بأُصول تحقيق المخطوطات؛ عمله في كتاب (عبث الوليد) لأبي العلاء المعرِّي، الذي استخرجه تلميذه أسعد طرابزوني الحسيني، من طيات مخطوطات المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة، واستشار شيخه الأنصاري فيمن يَعهَدُ إليه بتحقيقه..؟. فوجَّهَه بأن يُسلِّمَه لتلميذه محمد عبد الله بن المحمود السُّوقي المدني، ليقوم بذلك الجهد العلمي، بعناية الطيِّب الأنصاري ومتابعته، فتمَّتْ مراجعة الكتاب، واعتنى الطيِّب الأنصاري وتلميذه محمد عبدالله المدني بتحقيقه، وظهر الكتاب للنور وللقارئين.
وأيضًا ما كان من أمر الشيخ، وتلميذه الطرابزوني الذي اُشْتُهِر بشغفه بالمخطوطات وشؤونها، عندما عثر على كتاب: (عُمدة الأخبار في مدينة المختار)، للشيخ أحمد بن عبد الحميد العباسي (المتوفى في القرن العاشر)، ثمَّ ذكر الطرابزوني في تصديره للكتاب، قوله: «وبعد أن تمَّ نَسْخُهُ قدَّمته لعلَّامة عصره، الوحيد في علم اللغة العربية، الـمُتمسِّك بالآثار النبوية، حامي حمى التوحيد في العصور الرديَّة، أُستاذي ومولاي الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري-غفر الله له- لتصحيحه وتحرير ألفاظه، ثمَّ قمتُ بدوري وأَضفتُ إليه بعض أبحاثٍ علمية، وأَوضَحتُ بعض غوامضه، وبعض الآثار التي ذكرها المؤلِّف، وكيف هي اليوم ..، وبيد مَنْ..؟ « (عُمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد بن عبد الحميد العباسي، قام بتصحيحه وتحرير ألفاظه: الشيخ محمد الطيِّب الأنصاري، نشره على نفقته أسعد طرابزوني الحسيني، مطبعة الشَّيمي، الإسكندرية، ط1، 1334هـ، ص4).
ومع ما ظهر لنا في مؤلَّفَات الطيِّب الأنصاري التعليمية، ورسائله العلمية المطبوعة، أو المخطوطتين اللَّتين قام بتصحيح إحداهما، وهي: (عُمدة الأخبار) وضَبطَ ألفاظها، واعتنى واهتمَّ بتحقيق الأخرى، وهي: (عبث الوليد) التي اختار تلميذه محمد عبد الله المدني، لتحقيقها وتصحيحها؛ فإنَّ الشيخ لم يكن في وارد استثمار قدرته العلمية بمسألة التأليف، أو التحقيق ..، ولم يكن ذلك الشَّأن من شواغله، وهو هنا بالضِّدِّ من تَوجُّهِ أبرز تلاميذه: عبد القدوس الأنصاري، الذي كان التأليف والتَّبريز فيه من أبرز مُقوِّمات شخصيته العلمية والأدبية، وأظهرها.
وقد فاقَ أثر الطيِّب الأنصاري في تلاميذه، ما عداه من صفاتٍ ومخابرٍ تَجَلَّت فيه، وعُرِف بها، وبرز ذلك الأثر القَيِّم في سيرته العلمية والحياتية؛ فلا يُذكَرُ في محفلٍ أو سياقٍ، إلا ويُشار إلى آثاره المشهودة، وحسناته المشهورة: تلاميذه، وقد مرَّ بنا كثيرًا من شواهد هذه المسألة وتجليَّاتها، التي تكرَّرَت عند كل من تَحدَّثَ عنه، أو أصاب شيئًا من سيرته، في ترجمةٍ ونحوها.
ثمَّ أقول: إنَّ الإنتاج العلمي للطيب الأنصاري، سواء المطبوع والمنشور منه، أو الذي لايزال مخطوطًا؛ كان مجموعة مُدَوَّناتٍ تعليمية، وشرحُ مَنظُومات، ونَظْمُ منثورات، واختصار مُصَنَّفَات بعض العلماء، على النَّحو الآتي:
1- (الدُّرَّةُ الثَّمِينةُ في النَّحو)، وهي مَنظُومةٌ نحويَّةٌ لكتاب (شُذُور الذهب)، صنَّفَها لصِغار الطلاب، ومتوسطي المستوى التعليمي منهم، ممَّن لا يستطيعون فهم الــ(شُذور) واستيعاب مسائله، وبلغ عدد أبيات هذه المَنظُومة: (ألفًا ومائة وعشرين) بيتًا من بحر الرَّجز، وقد طَبعَها تلاميذه على نفقتهم الخاصَّة، وصدرت عن المطبعة الماجدية في مكة المكرمة عام (1354هـ)، ورَقَمُوا على غلافها، ما نصُّه: (تأليف العلَّامة الـمُحقِّق الفهَّامة مُحيي العلوم بالمدينة المنورة، محمد الطيِّب بن إسحاق الأنصاري)، وبلغ مجموع صفحات هذا الكتاب: (80) صفحة.
2- (اللآلئُ الكمينةُ في شرحِ الدُّرَّةِ الثَّمِينة)، وهي من أماليِّ الطيِّب الأنصاري، كما ذكر تلميذه أبو بكر التُّمْبُكتي، وشرح لمَنظُومتِه النَّحوية: (الدُّرَّة الثَّمِينة)، السَّالف ذكرها، ويمكن أن نعدَّ (اللآلئ الكمينة) أهمَّ (أمَالِيه)/مؤلَّفَاته اللغوية وأكثرها كمًّا، وأحفلها بمسائل النَّحو وقواعده، النافعة للتلاميذ في المستويات الوسطى من مراحل التعليم، بحسب ما وضَّحَه في المقدِّمة، بقوله: «فهذا تعليقٌ وضعتُه على مَنظُومَتي في النَّحو، المُسمَّاة: الدُّرَّة الثَّمِينة، أوضحتُ فيه مُشكلها، وفتحتُ مُقفَلها، وأطلقتُ مُقيَّدَها، وقيَّدتُ مُطلقَها؛ بألْطفِ عبارة، وأضفتُ إليها مسائل لا يَستغني عنها الـمُنتهي، وينتهي بمعرفتِها الـمُبتدي»( محمد بن إسحاق الأنصاري المدني، اللآلئ الكمينة في شرح الدُّرَّة الثَّمِينة، مقدِّمة المؤلِّف، ص5) .
وينطلقُ الشيخ في هذا الكتاب، من عقيدةٍ علميةٍ راسخةٍ، ذكرها في مقدِّمة الكتاب، بقوله: «إنَّ النَّحو واجبٌ تعلُّمُه على كل طالب علم، يرغب في انتظامه في سلك علماء الأمَّة المحمدية، وهم الذين بلغوا درجة القضاء والفُتيا والتدريس، إنَّ الوصولَ إلى هذه الدرجة في العلوم الشرعية فرضٌ عامٌ على الأُمَّة، يحمله من قام به عن غيره، ويسقط الإثم عن الأُمَّة إذا قام بذلك من تحصُلُ به الكِفَاية، ولا تحصل هذه الدرجة -بعد تغيُّر اللسان العربي- إلا بمعرفة النَّحو، وما لا تحصلُ الدرجةُ الواجبة إلا به؛ فهو واجب، إذ للوسائل حكم المقاصد، أقول: لأجل ما ذكرنا من احتياج طلبة العلم لعلم النَّحو، أدخلتُ نفسي في زُمرة المؤلِّفِين فيه، رجاء ثواب الله الـمُدَّخَر لمن علَّم علمًا يُنتفعُ به، أو تركه بعده»(المرجع السابق).
وجليٌّ أنَّ غرض الشيخ من هذا الكتاب؛ تعليم تلاميذه قواعد النَّحو وبسْطُها لهم، وهو العلم الذي كان الشيخ يجلُّه، وينصحُ تلاميذه بالحرص على تعلُّمِه؛ لأنَّه مفتاح فَهْم بقيَّة العلوم الشرعية والعربية وإتقانها، لمن (بلغ درجة القضاء، أو الفُتيا، أو التدريس) كما قال، ثمَّ أمضى قاعدة الأُصوليين: (ما لا تحصلُ الدرجةُ الواجبةُ إلا به؛ فهو واجب، إذ للوسائل حُكْم المقاصد)، في تأكيده عُلو شأن علم النَّحو، ووجوب تعلُّمِه تعلُّمًا يحفظ اللسان من اللَّحن، ويمكِّن المشتغل بتلك الصَّنائع من فهم أسرار الخطاب ودلالاته، وإدراك مقتضياته.
وصدر هذا الكتاب في طبعته (الأولى) عن دار المدني القاهرية، عام (1381هـ)، وتكفَّلَ تلاميذ الشيخ بأُجرة طباعته، وأشرف على هذه الطبعة، محمد جميل أحمد غازي -أحد المنتسبين للدراسات العليا في الأزهر الشريف آنذاك- الذي كتب أيضًا مقدِّمةً عن نشأة علم النَّحو وأهميته، ومدارسه وعلمائه، في مُستهلِّ الكتاب، دون أن يشير إلى الكتاب أو إلى المُؤلِّف بكلمةٍ واحدة..!
وقد احتفت مطبعة المدني بهذا الكتاب، وبشَّرَتْ بالفوائد المَرجُّوةِ منه، وافتخر صاحبُها والقيِّمُ على أمرها بجِدَّةِ الكتاب وفرادته، فيما خطَّه في آخر صفحاته، بقوله: «ويأتي هذا الكتاب في أوانه، ليُضيفَ جديدًا للمكتبة العربية، وليسهم في حركة البناء التَّحرُّري بجهدٍ كبيرٍ مبارك، وإنَّ مطبعة المدني ليُسعدُها ويزيد من سرورها، أن تضيف هذا الكتاب الجديد الفريد إلى سِجلِّها الأشم الشامخ»، وبلغ مجموع صفحات هذا الكتاب: (360) صفحة.
3- (التُّحفَة البَكرية في نَظْمِ الشَّافيَة)، وهي مَنظُومَةٌ تعليميةٌ كذلك، اصطنعها الشيخ لتلاميذه، ليُيسِّر لهم ما تعسَّرَ عليهم فهمُهُ من كتاب ابن الحاجب (ت646هـ): (الشَّافية في علم التَّصريف)، ولا تزال التُّحفة البكرية مخطوطةً، وبلغت صفحاتها: (ست عشرة) صفحة، وقد عزا هذه الـمَنظُومة لتلميذه أبي بكر التُّمْبُكتي تقديرًا له.
4- (البراهين المُوضِحات في نَظْمِ كَشْفِ الشُّبُهات)، وهي نَظْمٌ وعظيٌ في العقيدة، كتبه الطيِّب الأنصاري، و(كَشْفُ الشُّبُهات) رسالة ألَّفَها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بغرض تفنيد شُبُهات المشركين وإبطالها، وبيان حقيقة توحيد العبادة، وتوحيد الألوهية، وما ينطوي عليه هذا المضمون من مسائل وموضوعات، وقد صدرت هذه المَنظُومة في طبعتها الأولى عام (1357هـ)، عن مطبعة المدينة المنورة، بالمدينة المنورة، في (44) صفحة، وتوالت طبعاتُها فيما بعد بمقدِّماتٍ متعدِّدِة، من الـمُهتمِّين بهذا الصِّنف من الموضوعات.
5- (الدَّلائل اليقينيِّات في الفَرْقِ بين كرامة الأحياء والأموات)، وهي رسالةٌ صغيرةٌ في (ست عشرة) صفحة، كتبها الطيِّب الأنصاري جوابًا على سؤالٍ تكرَّرَ عليه، كما ذكر في المُقدِّمة: «من العامَّة وأشباههم، عن كرامات الأولياء، هل هي للأحياء خاصَّة، أو للأموات خاصَّة ..؟، وهو الذي يميل إليه السَّائلون، أو هي لهم جميعًا؟» (مقدمة الكتاب، ص3).
وقد أجاب الشيخ عن هذا السؤال في هذه الرسالة؛ مُراعيًا الجانب التأصيلي في هذه المسألة عقديًا وشرعيًا، وظهر الخطُّ المنهجي الذي التزَمه في بسطه الحديث حولها، وإيراده الأدلة والشواهد، وشرحها ونقاشها، والتعليق عليها، وختم بالنتيجة التي انتهى إليها.
وقد صدرت هذه الرسالة، في طبعتها الأولى، من طريق مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، عام (1360هـ)، وتصدَّرَ غلافها قولُ الناشر، بعد العنوان: «تأليف: العالم العامل العلَّامة الحَبر البحر الفهَّامة إمام عصره، ووحيد دهره، عالم المدينة، مُحيي السُّنَّة، ومُميت البِدعة، الشيخ محمد الطيِّب بن إسحاق الأنصاري»، ثمَّ أعاد ابن المؤلِّف، د. عبد الرحمن بن الطيِّب الأنصاري -رحمهما الله- طباعتها طبعة (ثانية)، عام (1409هـ)، واطَّرحَ تلك الأوصاف من غلاف الكتاب.
6- (تحبير التحرير في اختصار تفسير الإمام ابن جرير)، وذكر عبد القدوس الأنصاري: أنَّ هذا المؤلَّف «في كراريس عدَّة بخط الـمُؤلِّف، وأنَّ تفسير ابن جرير تفسير مملوءٌ بالأسانيد وبالتكرار والقصص، وقد اختصره الشيخ مقتصرًا على التفسير وحده، وكان في ذلك تسهيل على الباحثين، وإيضاح للمستفيدين، وتُوفي الشيخ، وقد بقي على إكمال هذا المختصر جزءان».
7- (السِّراج الوهَّاج في اختصار صحيح مسلم بن الحجَّاج)، لا يزال مخطوطًا.