حامد أحمد الشريف
يعتقد بعضهم أنّ السرقةَ جرمٌ واحدٌ في كلّ أحوالها وينبغي النظر إليها على هذا الأساس، وثم فهم يرفضونها قولًا واحدًا ولا يناقشون أيًّا من تفاصيلها؛ بينما ينبئنا الواقع أنّ السرقاتِ ليست سواءً، فبعضُها قد يجد تعاطفًا من العوامّ، أو لنقل، من المقهورين والمعدَمين، وقد يذهب بعض النشطاء الاجتماعيّين إلى تبريرها، إذ يرون إنّها تعيد الأمور إلى نصابها، وتعادل كفّتَي الميزان، وتقيم العدل الحقيقي؛ فالاعتداء، مثلًا، على أملاك غيرن، المبرَّرُ بأنّ الدافع له هو أسبابٌ منطقيّةٌ وحاجاتٌ أساسيّة، إنّما هو أمرٌ يزيّنه الشيطان في نفوس هؤلاء السارقين، ويقنعهم بحاجتهم إليه. وقد يذهب بعض المغالين إلى الاعتقاد بأنّ هذا النوع من اللّصوص ينهض بدورٍ مجتمعيٍّ غايةً في الأهمّيّة، وعلينا ثم مكافأتهم على سرقتهم، بحجّة أنّنا عجزنا عن حلّ الإشكاليّات التي استطاعوا هم حلَّها؛ وهو ما أوقدَ نار اللصوصيّة وفاقمَ من ظهورها.
لقد تمّ التطرّق إلى هذه الفكرة كثيرًا في الكتابات الصحفيّة والأدبيّة، وتبنّتها بعض الأعمال السينمائيّة العالميّة التي أظهرت بعضَ اللصوص على أنّهم شرفاء، إذ أعادوا الحقَّ إلى أصحابه، أو قاربوا بين الطبقات الاجتماعيّة المتباعدة، وانتقموا من سطوة أصحاب رؤوس الأموال، أو لنقل، مارسوا اللصوصيّة بـ»قيَمٍ أخلاقيّةٍ» لا يَحيدون عنها، واستفاد منها المجتمع. وكان أحدث عملٍ سينمائيٍّ ناقش هذه الظاهرة هو فيلم «Bandit»الذي يتحدّث عن السيرة الذاتيّة الحقيقيّة لـ اللصّ الكندي الشهير «جيلبرت جالفان جونيور»، المعروف أيضًا باسم «The Flying Bandit»، وقد قام بإخراجه للسينما المخرج الكنَدي «ألان أونجر». ويتحدّث الفيلم عن سارقِ سلسلةٍ من البنوك، سطا على عددٍ كبيرٍ منها بطُرُقٍ إبداعيّةٍ مبتكرة، ووبساطةٍ وسلاسةٍ غيرِ معهودة، ما خلّد اسمه كأسطورةٍ للصوص البنوك في العالم.
والشاهد هنا، أنّ هذا اللصّ الأنيق وخفيف الظلّ، يرى أنّ قيامه بسرقة البنوك مبرَّرٌ، حتّى أنّ زوجته اقتنعت بوجهة نظره، وأخذت منه مَوْثِقًا غليظًا ألا يسرقَ غيرها، بعد أن شاهدت بأمّ عينها ما يقوم به من عملٍ احترافّيٍ لا يؤذي به أحدًا غيرَ أصحاب هذه البنوك، وذلك حين اصطحبها معه في سيّارته ومكَّنها من مشاهدة ما كان يفعل على الأرض أثناء انتظارها له في مواقف السيارات. وكان قد بصّرها بجشعِ أصحاب البنوك، وكيفيّة ابتزازِهم أموالَ البسطاء عن طريق إغرائهم بشراء المنازل، ومن ثمّ طردهم منها واستعادة الأموال والعقارت منهم. نشير إلى أنّ الفيلم من بطولة الفنّان العالمي «جوش دوهاميل»، ولم يكن هو اللصّ، بل جسّد دور اللصّ الفنّان الأقلّ شهرة «نيستور كاربونيل»، وكان في ذلك ما يشير إلى أنّ اللصَّ يبقى لصًّا، فهناك من يحرِّكُه من خلف الستار، أكان ذلك رئيسَ عصابة متنفِّذًا لا تطاله أيُّ عقوبة - كما هو الحال في هذا الفيلم - أم مجتمعًا حاضنًا لمثل هذه السلوكيّات الرأسماليّة، يرعاها ويُفاقم من ظهورها وشيوعها. ولعلَّ مثل هذه الأفكار ليست وليدةَ اللحظة، فهي متداوَلة منذ القِدَم. ويكفي الاستشهاد بالحكاية الأسطوريّة المعروفة في أوروبّا والعالم أجمع، عن البطل اللصّ «روبن هود» الذي كان يسرق الأغنياء ليطعم الفقراء.
وهناك نوعٌ آخر من السرقات الفوضويّة التي قد يلتمس بعضهم الأعذار لأصحابها، بسبب العوز والظلم المجتمعيّ الذي يعيشونه، كتلك التجاوزات التي نراها في كثيرٍ من الأحيان عند حدوث بعض الانفلاتات الأمنيّة وتزعزع الأمن، ويكون سببها حالة الفقر الشديدة التي يعيشها هؤلاء، والبَوْن الشاسع بين طبقات المجتمع، وعدم الالتفات إليهم، أو أصحاب رؤوس الأموال، وتلبية حاجاتهم الأساسيّة من مأوى وطعام وشراب، فيصبح لا مفرَّ أمامهم من استغلال أيّ فرصةٍ سانحةٍ لتأمين القليل الذي يقيم أصلابَهم، مع أنّهم يبالغون في ردّة فعلهم هذه، ويذهبون باتّجاه التخريب والانتقام، والتهافت على الكماليّات قبل الضروريّات.
كلّ ذلك ربّما يجعلنا، بطريقة أو بأخرى، نتعاطف مع اللصوص، ونجد لهم بعض المبرّرات، أو على الأقل، لا نضعُهم جميعًا في سلّةٍ واحدة. بينما يرى آخرون أنّ علينا التمسُّكَ بالقيم الأخلاقيّة والالتزامَ بها في كلّ أحوالنا، مهما كانت الظروف، لقناعةٍ راسخةٍ بأنّ التخلّي عنها لن يكونَ في مصلحتنا على الدوام، بل سيتسبّبُ في انفراط عقد المجتمع، وهَتْك حرماتِه، واستفادة بعضهم من ذلك؛ وهو ما أتى به ديننا الحنيف الذي حرّم السرقة بشكلٍ قطعيّ، وعدّها من الموبقات ومن كبائر الذنوب، وذكرها بفعلها وعقوبتها المغلَظَة في القرآن الكريم والسنّة النبويّة، من دون أن يفرّقَ بينها أو يلتمسَ العذر لبعضها، كقوله تعالى في سورة المائدة الآية(38):(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وهو ما ظهر أيضًا في حديث أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: «أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
وعلى الجانب الآخر، نجد الإسلامَ يلجأ في تشريعاته إلى سدّ الذرائع المفضية إلى الإجرام وانتهاك الحرمات، إذ تلمّسَ حاجاتِ المعوَزين، وأتى بالوسائل الكفيلة بردم الهوّة بين الطبقات، بغية القضاء على الفاقةِ والفقر، وهو ما يجنّبهم السلوكيّات المجتمعيّة الشائنة، كاللصوصيّة والدعارة والرشوة، وكلّ الأفعال التي يقدح شرارتَها غيابُ العدل وإهمالُ الفقراء. نرى ذلك في قوله تعالى من سورة التوبة الآية60: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وقوله تعالى من سورة الذاريات الآية 19: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، وفي ذلك ما يشير صراحةً إلى أنّ الإسلامَ عالجَ الأسباب، وعاقبَ المتجاوزين، واعتبرَ سدَّ رمق المعوَزين حقٌّ على الأغنياء وليس هبةً يُشكَرون عليها، وحثّ على العمل وحُسن التوكُّل على الله للنجاة بأنفسنا.
وكما يلاحَظ، إنّنا في ما سبق، لم نبتعد في حوارنا عن سرقة الأموال بكلّ تفريعاتها - وهي التي يتمّ تداولها بين الناس، ولا يقرّ لها قرار في يدٍ واحدة، وتتسبّب ببعض الإشكاليّات التي نتحدّث عنها - ولم نتطرّق مطلقًا إلى نوعٍ آخر من السرقات المتعلّقة بأملاكٍ شخصيّةٍ حقيقيّة، لا تداوُلَ ولا توريثَ فيها، وتنقطع وتتوقّف بذهاب صاحبها، ولا يمتلكها غيره مهما كانت صِلَةُ قرابته به؛ بمعنى أنّها لم تكن في وقتٍ من الأوقات في يدٍ وذهبت بطريقةٍ أو بأخرى إلى يدٍ أخرى، بل تولّدت أو ظهرت للوجود على يدِ من أوجدها، وامتلكها تبعًا لذلك، وارتبطت به حتّى قيام الساعة. فمثل هذه الممتلكات يترفّع عنها حتّى عتاة اللصوص، ولا يزاحمون أصحابَها عليها، فهي أملاكٌ حقيقيّةٌ حصلوا عليها بجدّهم وعرقهم، وبما وهبه الله لهم من قدرات، وبالعلم والاجتهاد الذي بذلوه للوصول إليها؛ وأعني بذلك كلّ الأعمال الإبداعيّة الشخصيّة، كالفنون بشتّى أشكالها وأنواعها، والعلوم التطبيقيّة باكتشافاتها وابتكاراتها ونظريّاتها، والموسيقى والأدب بكلّ تفرّعاته...
إنّ مَن يسطو على هذا النوع من الإبداعات، مهما كانت أسبابه، يفتقر إلى المروءة؛ علمًا أنّ الإتيانَ بمثلها أو بما يفوقُها متاحٌ للجميع، ولا يعتمد على توريثٍ أو هباتٍ أو تجاوزات، وإنّما يمكن تحصيلُها بسلوك الطرق التعلُّمية التي أوصلت السابقين إليها، وهي تأتي خارج الضرورات الإنسانيّة الخمسة (الدين والنفس والعرض والمال والعقل) التي نُدب الإنسان إلى حمايتها والقيام عليها. لذلك، لا يذهب باتّجاهها إلّا مريضٌ يبحث عن إشباع ملذّاته، أو مهووسٌ بالشهرة والمجد الزائف. ومعظم هؤلاء يأتون من الطبقة المخمليّة المترفة، ممّن أدمنوا السطوَ على أملاك غيرهم، ونِسْبَتَها إلى أنفسهم بدون جِدٍّ ولا تعب، والاستعاضة عن ذلك، أحيانًا، بإنفاق الأموال مقابل شرائها من أصحابها. كلّ ذلك يعَدّ لصوصيّةً حتّى وإن حصل بموافقة المبدع المحتاج لسدّ رمقه؛ وهو أمرٌ يستوجب التعامل مع أصحاب هذه التقليعات الإجراميّة بطريقةٍ أعنف من تلك المعتمَدة مع صاحب «السرقة المبرَّرَة»، وعدم التساهل معهم مطلقًا، وإن كان ذلك - للأسف - لا يحدث، بل قد نجد تراخيًا وعدم اهتمامٍ من الجهات المسؤولة عن هذه الأمور، وعدم اكتراثٍ من المجتمع، حتّى من أصحاب الإبداعات المنهوبة أنفسهم أو الطبقة الاجتماعيّة المحيطة بهم، إذ يُهملون هذه التجاوزات، ويتخطّونها بسهولة، وربّما تُخرسهم الرشوة، وهو ما جعلها تستفحل وتنتشر ويجاهَر بها.
ويستثنى ممّا سبق الاختراعات والاكتشافات العلميّة التي وُضع لها قانون صارم يجرِّم مَن ينتهكها، إذ شُرِّعت براءة اختراع لها، ووُضعت الأنظمة لحصرها وحمايتها ومعاقبة من يتجاوز ملكيّتها، وإن كانت العقوبات ليست رادعة بما يكفي، إذ لا تتخطّى، في أفضل حالاتها، إعادة ا لحقّ إلى أصحابه معنويًّا، إذا ما استثنينا بعض حالات التعويضات القليلة، وذلك عندما يقع التخاصم بين جهاتٍ كبيرة... ومع أنّ السطوَ على الممتلكات الإبداعيّة أمرٌ غيرُ أخلاقي، وينافي حتّى عقيدة اللصوص الشرفاء، إلّا أنّه لم ينعدم، وبقي حاضرًا؛ فمجتمع اللصوص - كباقي المجتمعات - فيه الصالح وفيه الطالح، ما يعني أنّ هذا الأمرَ يحتاج للمتابعة الدائمة والرصد المستمرّ، وأنّ النجاحَ فيه ضئيل، فالتاريخ حافلٌ بقصصٍ كثيرة عن تجاوزاتٍ من هذا النوع، لم تُرصَد إلّا بعد وفاة أصحابها ونسيان أمرها، وفرار اللصوص بسرقاتهم بدون محاسبة.
إنّ تسجيل الإبداعات وترقيمها وتوثيقها يُعَدّ وسيلة للحماية، وهو ما خُصّت به الكتابة بكافّة صنوفها، وغاب عن بقيّة الإبداعات الإنسانيّة والفنون، كالموسيقى التي أُهملت إلى حدٍّ ما، ولم توضع أنظمة صارمة تجرِّم التجاوزات، أو على الأقل ترصدها، وتعيد الحقوق إلى أصحابها، وإن أدبيًّا، ولاسيّما أنّ هذه السرقات لم يسلم منها حتّى كبار الفنّانين والموسيقيّين والكتّاب، علمًا أنّه ليس من الصعوبة بمكان الوقوف عليها ومحاربتها، وإنزال العقوبة بالمتغوّلين على الأنظمة المتعدّين على أملاك غيرهم.
وإذا ما عدنا إلى الكتاب، نجد أنّه من المضحك منح الجهة المرُخِّصة التصاريح لنشر بعض الأعمال المسروقة، والتي سبق ورخّصت لها بنفسها، بحيث يحظى كتابٌ إبداعيٌّ وكتابٌ منسوخٌ عنه برقم الترخيص ذاته! يحدث ذلك رغم السياسات المعلَنَة التي تؤكِّد حمايةَ كلِّ هذه الإبداعات، بوضع ترقيمٍ دوليٍّ موحَّد يمنع تكرار الأرقام، ويمنح كلَّ كتابٍ هويّةً خاصّةً به تميّزه عن أيّ كتابٍ آخر. ورغم كلّ ذلك، نجد كتابَيْن يحملان العنوانَ نفسَه ولا يختلف محتواهما، ولكنّ كلَّ واحدٍ منهما يحمل اسم كاتبٍ مختلف، وله أرقام تسلسليّة مختلفة! وهو أمرٌ يشير إلى التهاون بهذا الخصوص، ويسوِّغ السرقة ويدعمها، إذ يجعلها تتمتّع بصفةٍ رسميّةٍ يمكن المحاججة بها، ولاسيّما أنّ كلًّا منهما لديه ما يثبت ملكيّته للكتاب رسميًّا.
لقد فاق هذا الصنف من لصوص الكتب «المودرن» أو العصريّين، كلَّ من سبقهم، إذ يتباهون بسرقاتهم، ويَظهرون في العلن وهم يتحدّثون عن «إنجازاتهم»! وهو ما لم نشهده سابقًا في الحالات الأخرى؛ فاللصوص عادةً يتستّرون على سرقاتِهم، ولا يشهرونها مطلقًا، بينما يتكرّر حدوث ذلك مع هذا النوع من السرقات الإبداعيّة كالحادثة التي ذاع صيتها مؤخّرًا، وتداولها بعضهم عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتتعلّق بإحدى الروايات التي نُشرت نسختها الأولى في العام 2020، بينما ظهرت مؤخّرًا نسخةٌ جديدة تحمل العنوان والمحتوى نفسه؛ وادّعى كلّ طرف أنّه صاحب الحقّ في المخطوطة، واتّهم الطرفَ الآخر بسرقتها. علمًا أنّ ظاهر الحكاية يجعل من الصعب تصديق أنّ يكونَ السارق هو الذي قام بالنشر في العام 2020 عن طريق دار نشر معروفة، ولاسيّما أنّ له عددًا كبيرًا من الروايات المنشورة والمعروفة، بينما صدرت النسخة الجديدة عن دار نشر غير معروفة، باسم كاتب لا يملك غير هذا العمل السرديّ؛ ما يجعلنا نتحفّظ حياله، ويرجّح لدينا أنّ ناشر الإصدار الأوّل هو صاحب الحقّ. ولكن، ولعلمنا أنّ مثل هذه الاستنتاجات، رغم أنّها منطقيّة، لا يمكن التعويل عليها في إصدار الأحكام والمحاسبة، فإنّنا لن نذهب بأيّ اتّجاه، بل سنقف على الحياد، في وقت ينبغي علينا كمجتمع أدبيّ - من باب الحفاظ على مكتسباتنا الأدبيّة - ألا نتهاون في المطالبة بالتحقيق وإظهار الحقّ، ومعاقبة المتغوّل على الأخلاق، المتعدّي على ممتلكات غيره وحقوقهم، والتشهير به، حتّى يكون عبرةً لغيره؛ فالصمت على حالات كهذه، واعتبارها نزاعاتٍ شخصيّةً لا علاقة لنا بها، أو الاصطفاف مع أحدهم بذريعة الوطنيّة أو القبليّة أو الأيديولوجيّا، لن يتضرّر منه صاحب المخطوطة المسروقة وحده، بل سيطالنا جميعًا، إذ إنّ السرقات لن تكون كلّها بهذا الغباء، وبهذا القدر من السذاجة؛ فقد يأتي محترفون يسرقون الأفكار والخطوط الرئيسيّة للعمل، ويغلّفونها بطريقتهم، ويُلبسونها رداءهم، ويختارون لها عنوانًا مختلفًا. وهذا النوع من السرقات موجود بالفعل، حتّى من أسماء كبيرة لها وزنها في المشهد الثقافي، ولكن يصعب محاكمتهم، فسرقة الأفكار وبِنيويّة العمل أو أسلوبيّته، يمكن أن تُنسب وببساطة إلى توارد الخواطر، هربًا من استحقاقاتها، هذا في حال كُشفت، إذ إنّ هذا الأمر يصعب الوصول إليه إلّا من خلال بعض البرامج الحاسوبيّة التي يُفترض أن تعملَعليها اللجان المتخصّصة في إجازة المخطوطات.
كذلك قد يفضي تهاوننا إلى انتشار سرقاتٍ يمكن تسميتها «سناكّات» أو وجبات خفيفة، بالسطو على القصص القصيرة التي قد تكون غير موثّقة ولم يتمَّ نشرها في كتاب، وكذلك الاستيلاء على بعض النصوص الصغيرة والعبارات الملهِمة، وتجميعها في كتبٍ مستقلّةٍ، ونسبتها إلى غير أصحابها، ممّا يسهِّل الهروب من استحقاقاتها هي الأخرى؛ كما حدث مؤخّرًا عندما قام أحدهم بسرقةٍ من هذا النوع، وشاء القدير أن يُفتضح أمرُه عن طريق الصدفة. والمضحك أنّ هذا السارق كان قد حصل على موافقة جهةٍ رسميّةٍ لتبنّي العمل وطباعته ونشره، علمًا أنّه حوى عددًا من القصص القصيرة المسروقة من جهاتٍ عديدة، لولا لطف الله، واعتراف السارق، وتراجع الجهة الرسميّة عن حفاوتها السابقة به.
إنّ سرقة الإبداعات، في ظنّي، تعدّ من أعظم أنواع السرقات، إذ لا ضرورة تدفع إليها، وليس هناك ما يسوّغها، ولسنا مجبَرين عليها؛ وأقلّ ما يمكننا فعله، هو التشهير بهؤلاء السارقين وفضحهم على رؤوس الأشهاد، ليتمَّ لفظهم من المجتمع الثقافي، أو منعهم لفترة معيّنة من النشر، وكذلك التحقُّق بشدّة من جميع إصداراتهم السابقة واللاحقة، بعد زوال فترة المنع. علمًا أنّني أميل وبشدّة إلى فكرة التعويضات الماليّة الكبيرة، كما يحدث في الدول الغربيّة، إذ إنّ السارق لن يتورّعَ عن العودة إلى هذا الأمر مرّة أخرى إن لم يدفع الثمن غاليًا، بل سيسعى إلى أساليبَ جديدةٍ تقيه الفضيحةَ والمحاسبة المعنويّة، علمًا أنّ هذا الصنف من اللصوص لو كان يمتلك القدرات الإبداعيّة لما ذهب نحو السرقة، وثم فاجتثاثه ولفظه من هذا المعترك أفضل له وللمنشط الإبداعي الذي تجرّأ عليه، لأنّ ذلك قد يدفعه لمعرفة قدراته الحقيقيّة وتنميتها في المجال الذي يقدر عليه، خاصّة ونحن موقنون أنّ صنيع هؤلاء يأنف منه حتّى اللصوص الشرفاء.