شوقية بنت محمد الأنصاري
لا تكاد تفارقنا لحظات شغب طفولتنا عند أبراج الشقق الفندقية وأبسط متعتنا استخدام المصعد للصعود والنزول وكأننا ننطلق على صاروخ فضاء نلامس القمر، فكيف إذا جذبتك طقوس مسرحية تعيد أحلام طفولتك، وخيالها عابقا بذاكرتك، وهنا السرّ في تصدر المسرح على باقي فنون الطفل لدوره في تنشئة الأجيال والرقي بمهاراتهم الإبداعية، حيث يزداد الإيمان بهم في عصر المتغيرات والمشتتات، لذا فإن الحاجة العصرية التي تتطلبها الساحة الثقافية الوطنية بما يتوافق مع الرؤى والأهداف السامية، والتي تمثلت في مسارات تنافسية للطفل بشراكة بين وزارة التعليم والثقافة ومؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع، عبر عدة مسابقة: (المهارات الثقافية- تحدي الإلقاء للطفل- برنامج موهبة الإثرائي المهاري) هي فرص كفيلة لإعادة النظر في مخرجات الإبداع الطفولي ورسم رؤية جادة لتطوير ثقافة الطفل وفنونه، التي تتشكّل من المنظومة الثلاثية (الأسرة والمدرسة والمجتمع) هذه الهندسة الحياتية ينتظرها مستقبل زاخر بالمهارات والفنون والأداء، ليقف الجيل بتوازن ورصانة أمام موجات الصراع التافهة، فنشاركه في بلورة ثقافته الجميلة المحاطة بالفنون الإبداعية المرئية منها والسمعية، ونعزز سلوكه بالوعي الإنساني، ولا مكان يتناسب مع هذه التوجهات مثل المسرح، لكونه الأداة الأقوى لترجمة لغة الاهتمام بالطفل، يصفه (مارتن توين) بقوله: «من أعظم الاختراعات في القرن العشرين وأقوى معلم للأخلاق، وخير دافع للسلوك الطيب، اهتدت إليه عبقرية الإنسان»
ومسرحية الطابق تسعة للأطفال التي أعلن عنها فريق لجين المسرحي بدعم من هيئة المسرح والفنون الأدائية بتاريخ 8-9 سبتمبر 2023م بمدينة الرياض وبتاريخ5-6 أكتوبر بالقصيم، تترجم رؤى أهدافنا التنموية الوطنية للرقي بمواهب الطفولة الفنية، والسعي لتطوير حراك مسرح الطفل وأدواته، فيأخذك عنوانها لقفزة يحلم بها الطفل عبر كافة العصور، ليرى نفسه وقد حقق أحلاما تفوق خيالاته، وأسترجع مقولة العقاد مرددة (صغير يطلب الكِبَرا..وشيخ ودّ لو صَغُرا) فالولوج إلى عالم الطفل لكتابة نص يخترق تأملاته وتفكيره، ويرسم آفاق خياله يحتاج لكاتب متمرّس منغمس في عالم الطفولة يلحظ مشاغباتها، ويرصد توجّهات شغفها، ويساند مغامراتها، ويقفز بها الفرص التي تجعلها تبحر في مكنون إبداعها، عن ذلك تقول (نهاد صليحة) في كتابها (المسرح بين النص والعرض) «إن تاريخ المسرح في الشرق والغرب يشهد بأن أعظم نصوص كتبت للمسرح لم يبدعها أدباء يعيشون في أبراج عاجية، بل كتبها رجال مسرح انخرطوا في العملية المسرحية منذ كتابة النص حتى عرضه أمام الجمهور»
والأستاذ خالد المنصور رسم هذا الانخراط المسرحي بحضور إبداعه في النص ككاتب وفي العرض كمخرج ومشرف على العمل، لنفسّر المشهد مثل ما رآه (كريستوفر بالم) بجملة (تحليل الأداء) ونحدد خارطة قراءة المسرحية بتحليل أبعادها (الإنتاجية) من المشهد والملابس وحيّز الأداء والاستمرارية العالية لتكامل بناء المسرحية، إلى أبعاد (لغوية) من النص المسرحي كالإشارات المكتوبة وتصارعها مع الحوار بتدفق متصاعد، إلى أبعاد (أدائية) من تمثيل الأطفال وإتقانهم لإشارات المسرح، إلى التنوع العالي من لغة دهشتهم المعبرة عن أبعاد الحدث، كل ذلك بمراعاة خصائص نمو الطفل وتسارع العوامل المؤثرة حوله، فتأخذنا القراءة لنتحوّل لأفق التوقعات ونقرأ تشكّلات استجابة المتلقي (الطفل والأسرة) للدلالات الجمالية في مسرحية الطابق التسعة.
جاءت رحلة البحث عن الحلم بين الطوابق مفتاح الطريق للمؤلف (خالد المنصور) ليصوغ أحداث المسرحية بأسلوب خيالي بعيدا عن التقليدية في رسم تنوع ملامح الحلم، وتحديات ملاحقته وتحقيقه، لينقل الجمهور المتلقي (الأطفال) من عملية التلقين والتدريب الاعتيادية لعملية تثقيف مبتكرة، تأخذ بآفاقهم للتفكير والفحص وتوقظ حسهم الجمالي وذوقهم الناقد ليقرروا ويغامروا، فكانت المسرحية مرشدة لتوظيف وعي الجيل بذواتهم وموهبتهم لينجح (خالد المنصور) في تفعيل حضور فلسفة صناعة الآخر، فكان هذا النوع من مسارح الطفل بحاجة لجهد تربوي وتثقيفي وترفيهي لتجتمع بالعرض المتعة والتسلية والفائدة، بتوظيف السينوغرافيا وتنويع الشخصيات وتمييز أدوارها وتوظيف المكياج والزي الجاذب لهيئتها، فيتلقى الطفل عرضا مسرحيا استثنائي التأثير والإلهام، وما أجمل أن يترك هذا العرض نقطة تحوّل حاسمة في مهارات الطفل وإبداعاته ليقرر خوض تجارب فنية جديدة، كالطفلة (ألماس العوفي) تصدرت المشهد بالتقديم وهي تؤدي دور الراوي في تناسق فني من الزي ونبرة الصوت والأداء الواثق ونبرة ترحيب شاعرية وتارة نثرية جسدت فيها معالم الراوي بقيم الجمال والإنسانية ليقترب أداء مسرح ا لطفل هنا من الكوميديا الشعبية التي كثيرا ما يحاكيها الصغار وكأنها المصباح السحري لبلوغ الحلم.
ومن دلالات الجمال في مسرح الطفل توظيف العلاقة بين الزمان والمكان في النص «كون الزمان يخلق خط الأحداث، بينما يؤطر المكان ذلك الحدث ويرسم معالمه ودروبه، وهما معا يكونان التأثير في عناصر النص المسرحي ويصنعان مظهرا للحقيقة في النص المتخيل» تجلى ذلك في المشهد الأول حيث الديكور اللافت على خشبته من قفص وطائر محبوس والمصعد الكهربائي ذلك البطل الجامد، جميعها جسدت مشهد حديقة الطيور بزقزقة وصفير عصافيرها، تتردد بالمشهد أنغامها (يا عصفوري) وكأن الطابق مخصص لتصدير الطيور مما انعكس دهشة على الطفلة (جود) بطلة الطوابق والصاعدة المتلاعبة بين الأدوار بعدة مواهب وكأنها أليس في بلاد العجائب، والتي حاربت خوفها وخاضت تجربة التقليد والمحاكاة، لتصوصو كالعصافير والسخرية تأخذها من الوضع فلم تتقن اللعبة، تارة يأخذها الفضول للإتقان وتارة للتنمر والتأفف، وتعاير الطائر الأبيض (طير كبر جدي) وتردد بسخرية هل سأطير (الله على جوي) فالمشهد يصور الامتداد الزمني للخيال الذي لازال يلازم الإنسان من طفولته حتى يهرم وهو يرجو التحليق كالطير، فكان توظيف اللغة البيضاء في هذا المشهد ليحاكي أجواء السخرية الواقعية من جرأة أحلامنا ويلفت نظر المتلقي لقضية تشوّه تعاملاتنا ألا وهي (التنمر) ساعدها ظهور الضوء واختفاؤه مع الموسيقى.
المشهد الثاني: يأتي المصعد بسلطته ودلالته العظمى على البداية والنهاية والصعود والنزول، لتدخل منه (جود) منبهرة عند وصولها للطابق الثقافي بفنونه المتنوعة بين الموسيقى والكتاب، ليرسل (رائد) الفنان العازف بالمشهد الثقافي رسالة ذكاء وجذب ليتعايش الجمهور التكامل بين لغة الأدب وألحانها الموسيقية، والفن يعزف تراتيل الإبداع بالمهارات المسرحية، وكيف لنور العلم والكتاب أن تصنع من الإنسان بصمة تفرد استثنائي، فيقوى المشهد بكثرة تساؤلات (جود) التي تردد: مالنور؟ لم أفهم؟ و (رائد) يأخذها بالصمت والعزف الماهر، فتأتي التناقضات المحيرة (ظلام – نور) فتزيد من حيرة (البطلة) في تحديد مسار موهبتها، وتخرج (جود) من الطابق بعد أن تأخرت في استيعاب اللغة لتكون مثقفة متنمرة تارة، وحائرة تارة أخرى، بدليل تكرارها مفردة (ليس جوي) وتكابر بلغة جيل يعشق التحدي (سأجيد العزف على آلتك.. سأقرأ كتبك كلها) فكان المحك في الحوار حبك لغة الاقناع ليفوز بالمشهد الطفل المثقف الفنان، لذا جاءت اللغة بين العامية والفصحى متناسبة ليدرك الجمهور أن الذكاء مطلب مع المعرفة ومطلب للوعي واقتناص الفرص، فكأني بهذا المشهد أسترجع مقولة الناقدة (نهاد صليحة) عن مسرح الطفل: «يقترب في أعلى مراتبه من الكوميديا الشعبية، فالأضداد في عالم الكوميديا الرومانسية الشعبية تتوحد وتمتزج في بوتقة الخيال الخصب الذي تتخلق فيه الأسطورة ويحاكي منطق الحلم».
المشهد الثالث: تزداد مع بدايات المشهد وتيرة الصراع الذي تخلقه شخصية (جود) ربما ظهورها بنفس الزي المبالغ زينة كان له أثر بسيط على أن تتخفى وتهرب رغم فضولها -وهي سمة تتميز بها مرحلة الطفولة- لاكتشاف كل الطوابق وما فيها من عجائب وقد نجحت بأداء التحايل على أقرانها، كلحظة دخولها من المصعد على أجواء حديقة ترفيهية وحفلة راقصة منبهرة لتعيد مقولة دهشتها (الله على جوي) فتوهم نفسها بالسعادة والراحة وهي في خفاء وخائفة، ويزيدها الفضول لمحاكاة الفرقة الراقصة بالطابق الثالث، وتأسرها الأرجوحة للعلب تارة ومحاكاة الرقصة بظلالها تارة أخرى، ثم يداهمها صوت التنمر من الفرقة، ولا تكمل الرقص ليلامس النشيد موقفها المحزن من (أروما) ونظراتها القاسية نحو (جود) في اشمئزاز وسخرية (اخرجي من طابقي) فكيف لو توظّف للبطلة (جود) زي قديم متهالك لكان أبلغ في إرسال رسالة التنمر من (أروما) وتكبّرها على (جود) ليشكل المشهد للمتلقي (الأطفال) ردة فعل عكسية تلهمه لتوظيف لغة الذكاء العاطفي في تكوين علاقات ناجحة ووأد التنمر، فكانت لوحة المشهد متناسقة بين أزياء الفرقة والمكياج مع طبيعة الأداء والموسيقى، أما الحوار فكان حادا لتصاعد الصراع بالتنمر من رئيسة الفرقة التي رفضت دخول (جود) ضمن أعضاء فرقتها.
المشهد الرابع: دخول الطفلة (جود) الطابق تسعة وصوتها يرتفع فرحة (هذا طابقي هذا جوي وعالمي) ومازالت تعيش مشاهدات عالم الطوابق الأخرى: كيف تنضم لعالم الطيور، وتتقن عزف الكلمة واللحن، وتعود لتتساءل (يا عالمي أجبني) والضوء الخافت يزيد تساؤلاتها وتبقى صامتة، لتلفت نظر المتلقي كيف يبحث عن جماله ومواهبه، الذي تعزز بدخول الأطفال الموهوبين المتواجدين بالطابق تسعة ويشاركون (جود) الانبهار باللعب لكسر حاجز التنمر والاختلاف، وتعترف بخدعها وتحايلاها وكيف وظفت جملة (الله على جوي) ولغة الجسد والتباكي لتوهمهم أنها منهم، ويلتف الأطفال حولها يرافقهم الحكيم إياس في لعبة جماعية ترسل رسالة براءة كيف تكون اللطافة جوهر الحياة مجتمعية، وتبدع جود في صياغة كلمات شاعرية ختمت بها المشهد بروعة تناغم حواراته المعتذرة وموسيقى الفن معها مكتملة، وأزياء الأطفال لم تتغير عن كل مشهد وكأنها بصمة الموهوب تتربع، وإن فات المخرج أن يستغل بداية المشهد بظهور (جود) في طابقها التاسع بزي رثيث قديم متهالك يرسم حدة تحايلها ويختلف عن الزي في المشاهد السابقة المبالغ في زينته وألوانه، حتى إذا توقفت الموسيقى في نهاية المشهد الرابع يقف الأطفال على وضعيتهم مقابلين للجمهور، وتغيب (جود) لتعود لزيها الأساسي في بصمتها المسرحية، والنشيد في تحايلها يردد (خارقة مارقة صادقة)، وجاء المشهد الخامس ليؤكد حضور الموهبة وانتصار سلطتها على التحايل والتنمر في ختام مسرحي بصوت الطفل (ضاري) الذي بعث الحكمة والفلسفة بصوت بليغ ولغة تعزز التشارك بدلا من الخداع في مشهد راقص ليؤكد أن المواهب تحتاج لجيل يقرأ ويعزف ويناضل لهدف وصدق بجمال بارع.
أختم المقالة وهناك فكر يتأمل ويعقد الرأي المأمول بعد هذا المهرجان المسرحي للطفل (الطابق تسعة) كيف لهيئة المسرح والفنون الأدائية ووزارة التعليم بعد قراءتها لمشهد حضور المسرحية، أن تعيد نقل أفكارها القيمة الناهضة بهمة جيل متعدد المواهب، لتقفز بمسرح الطفل وتبتكر في أهدافها لصالحه، فتستديم في وهجها الفني، وذلك بتمويل وتكرار المسرحية عبر إدارات تعليم مناطق الوطن، فيستمتع الأقران أمثالهم ممن برزوا في المسرح المدرسي بمشاهدة تجربة المواهب الأدائية وتُفتح أبواب المنافسة للانخراط في برامج وتدريبات الهيئة في مجال مسرح الطفل وفنونه.