د. محمد بن عويض الفايدي
في العلوم الطبية ظهر مفهوم الأزمة بداية كنقطة يتحول أثناءها السليم إلى مريض في لحظة مرضية محددة يمكن أن يتحسَّن فيها الحال أو قد يزداد سوءًا. كل ذلك يحدث خلال فترة زمنية قصيرة. ثم اتسع نطاق الأزمة فشملت مختلف المجالات، وباتت تشمل مجموعة الحالات والظروف والحوادث والأحداث المفاجئة التي تحمل تهديدًا واضحًا للأوضاع القائمة في اللحظة الحاسمة والحرجة التي يتحدد عندها مصير تطور حدث ما، إما إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ.
تتسم الأزمة بالتهديد، والمفاجأة دون سابق إنذار، في ظل شح المعلومات، وتصاعد الأحداث، وفقدان السيطرة على الأحداث التراتبية والمتشعبة والسريعة، التي تقع خارج نطاق قدرة وتوقعات متخذي القرارات، فتفقدهم السيطرة والتحكم بزمام الأمور، وضغط عنصر الوقت بشدة عليهم بما لا يمنحهم فرصة للتفكير والتأمل في اتخاذ القرار، في ظل ضبابية قد تدفع القائد إلى إقالة كل من يعتقد أن له صلة بوقوع الأزمة، والتشاجر مع المساعدين والأعوان باستمرار.
يتطلب التصدي للأزمات مهارات قيادية وإدارية عالية. لكون الأزمة تحمل في طياتها مضمون (الخطر) الذي يجب تحييده، و(الفرصة) التي يمكن استثمارها، وهنا يتجلى التميز المؤسسي، والنضج القيادي، وكفاءة القائد، والقدرات القيادية الابتكارية. في تصور إمكانية تحويل الأزمات وما تحمله من مخاطر إلى فرص لإطلاق القدرات والمهارات التي تستثمر الأزمة كفرصة لإعادة صياغة المشاهد بحلول إبداعية تخفض الخسائر وقد تُحيلها إلى مكاسب.
ترتبط خصائص الأزمة بتحولات جوهرية تنطوي على درجة عالية من الغموض، والاضطراب، والمخاطرة، التي تتطلب قرارات مصيرية للتصدي لها ومواجهتها وأحيانًا حسمها، والتي تُحدث توترًا عصبيًا وتشتتًا ذهنيًا هائلاً، بسبب عنصر المفاجأة، والسرعة والديناميكية، والتعقيد والتداخل، والتغيير المتلاحق، الذي يطال القيم العليا والأهداف الإستراتيجية. مما يجعل أحد أو بعض أطراف الأزمة يفقد السيطرة على مجرياتها.
التهديدات والأزمات والمخاطر والحالات الطارئة والصراع تحديًا حقيقيًا لزعماء وقادة اليوم وكل يوم يجعلهم تحت المجهر، فالأزمات تُعد مرحلة متقدمة من الصراع ترتفع فيها حدة التوتر في شكل تأهب واستعداد يُنذر بالحرب. وتستمر الصراعات الدولية في التصاعد حتى تصل إلى مرحلة الحروب بالدخول في صراع دموي مُسلح بين طرفين أو أكثر يحمل أبعادًا متعددة من العنف والقتل والتدمير.
يظهر صراع الإيرادات وتعميق النزاعات جليًا في الحرب الطاحنة التي تفرضها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بنزعة انتقامية، وهي تفتعل الأزمات وتُخرجها في قوالب مغلفة بنزعة التعالي والعنصرية والتشفي والقتل والتدمير والتهجير. يُعزِّز لها القوة العسكرية، والآلة الإعلامية، والدعم الغربي المطلق، ومواقف الدول القوية والهيئات والمنظمات الدولية المنحازة.
قراءة السلوك الدولي الذي يعكس سياسة نزوة صناعة الأزمة المفضية إلى الحرب وتصعيد المواقف وخلط الأوراق، لتعويم قواعد اللعبة وتوسيع دائرة المناورة على المصالح الاقتصادية والمكاسب العسكرية والانتزاع القسري لثروات أمم وشعوب مسحوقة تم زرع الفتنة والشقاق بين مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية من أجل تعميم الفوضى وتعميق الصراع، الذي يتزعمه الإعلام بتهيئة الرأي العام وصياغة الرؤى وبناء التوجهات وتزييف الحقائق، ثم يُعيد إنتاج وصياغة العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والعسكرية والاستهلاكية تحت سقف أزمات متصاعدة لا يمكن التنبؤ المنطقي بامتدادها. ويغلب على ملامح سياساته نشر الثقافة التوسعية ورمزية الأقوى التي تُصيغ مهددات الأمن الدولي والسلم الاجتماعي برؤية أحادية في ظل تعويم الحرب على الإرهاب، وتصعيد الأزمات بإعلام ممنهج مفبرك يقلب الحقائق ويُزيِّف الوقائع لكفة من يتحكم بمؤسساته وأدواته.
يُعد تطوير وتعزيز القدرات في مجال التحسب للأزمة في كل مراحلها منذ الميلاد والنشأة، والنمو، والنضج، والانحسار، والاختفاء، ضماناً ضد التهديدات التي تتعرض لها مختلف قطاعات المجتمع عن طريق دمج التأهب كعنصر أساس ضمن عناصر إدارة مواجهة الأزمات.
تظل سرعة الاستجابة هي العنصر الأساس في مجال التصدي للأزمات، وتُعد خطوة تتمتع بنفس القدر من الأهمية والحتمية في إدارة الأزمة، للمزج السريع والفوري بين المدخلات البشرية والمادية، وعناصر الإدارة من تخطيط وتنظيم وتنسيق وتوجيه ورقابة واتخاذ قرارات ومتابعة وتقييم، واتصال، وعلاقات عامة على نحو فاعل يستوعب كافة جهود الاستجابة الوطنية وإدماجها مع كل سبل الدعم السريع من خلال المعطيات القيادية والإدارية والتقنية لإدارة الأزمة على نحو يجعل الوضع تحت السيطرة والتحكم، بما يُحقق الكفاءة الإنتاجية والكفاية التشغيلية عند الوقاية، وأثناء الكشف، والاستجابة، والتعافي.
صناعة وإدارة الأزمة أضحت سبيلًا للسيطرة على الآخرين بما يحقق مصالح وأهداف صانعيها على حساب الطرف المستهدف، إذ يتم التخطيط لها وهندستها وافتعالها ضمن إطار زمني محدد الأهداف والبرامج والمراحل، حسب توقيتات تستغل ثغرات الطرف المستهدف بإيقاعه في مصيدة أو افتعال حدث يُبرر لانطلاق شرارة الأزمة ومن ثم اللعب على أوتارها بالتعظيم والزعزعة والمساومة.
الوطن العربي أضحى يعيش هم أزمة كبرى على أرض فلسطين أزمة مركبة وممتدة الأبعاد، أهدافها وأحداثها الراهنة في قطاع غزة والمرحلية والمستقبلية متعدية باتجاه دول الوطن العربي دون استثناء، فالذي لم يصله لظى الحرب يصله دخانها، ولعل المؤشرات والشواهد والتحركات الدولية والإقليمية تقضي بضرورة التأهب وإطلاق الدعوات لمؤتمر دولي من أجل شعب وأرض فلسطين، والعمل على إنشاء فرق إدارة أزمة عربية بمشاركة إسلامية من خلال منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية ومجالسها، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية للتعامل مع هذه الأزمة وما قد ينضوي تحت عباءتها من تهديدات ومخاطر وتحديات قد خُطط لها ورُسمت معالم سلوكها لتهديد الأمن القومي العربي بكل مقوماته الطبوغرافية والسيادية.