أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كنت تابعاً أميناً لابن قيم الجوزية رحمه الله عندما كان يمنع من التجوز في الدعاء والاكتفاء بالمأثور، ولكنني بعد الممارسة والطلب رأيت الدعاء تحملاً وأداء؛ فعند التحمل ينبغي أن لا نحفظ غير الأدعية المشروعة الصحيحة، وأن نبدأ في الاستيعاب بأجمعها لخير الدنيا والآخرة.
ولكن المسلم يضطر لأداء الدعاء ولا يكون في ذاكرته شيء يليق بحالته، وقد لا يكون تحمل شيئاً أصلاً. فهل نمنعه من طلب فيوض ربَّه وألطافه حتى يحفظ الدعاء ويتقن محفوظه؟.
كلا لقد انبهم الأمر على أَمَة الله وهي من عوام المسلمين فقالت: (اللهم إني لقيتك سوادي وأنت تعلم ما في فؤادي).
قال أبو عبدالرحمن: والمسلم يحزبه الأمر أحياناً فيفتح له في الدعاء فيستجاب له، ثم يستذكر دعاءه فيجده إلهاماً من ربه لم يرد مسنداً إلى الشرع بلفظه. ووجدت أدعية صحيحة الإسناد لم يرفع، ولكنها موقوفة على بعض الصحابة كدعاء عمر رضي الله عنه في القنوت.
إذن المسلم عند أداء الدعاء يؤدي الدعاء المأثور كما سمعه فإن عجز فليعبر عما في قلبه بعبارته هو وإن كانت عامية.. غاية ما هناك أن لا يتعدى في الدعاء كأن يسأل محرماً أو خلاف مقتضى السنة الكونية أو أن يكون أعلى منزلة في الجنة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ولقد أضعت مأثوري مرة فاستحدثت لنفسي دعاءً كنت أردده في المسجد وفي المقبرة طيلة لحظات التأزم.. وذلك الدعاء المستحدث قولي: «اللهم إني أسألك حسن ذكرك في الحياة وعند الممات وأسألك حسن الخاتمة».
قال أبو عبدالرحمن: احتجت لهذا الدعاء بعد نسيان مأثوري لأنني كنت في تشييع جنازة شيبة حمد من العباد الأتقياء - هكذا أحسبه والله حسيبه - وكان من جماعة أحد المسجدين اللذين أصلي فيهما، وكان يعاني آلام السرطان أزيد من خمسة عشر عاماً، وكان يعلم ذلك فلم يزده إلا احتساباً ورضى بالقدر، وكان يجر نفسه للمسجد في الحر والقر، وكان ذا كرم ورفد رغم قلة ذات يده. وفي آخر ليلة من حياته نادى بتغيير سريره وفرشته، وبتغيير ملابسه وبأن يغتسل ويطيب فكان يصلي المغرب ويطيل وتسمع مناجاته بعد الصلاة، يا رب أريد أن أصلي، وهكذا فعل في صلاة العشاء، وكان يهم بالخروج إلى البيت ويخبر من حوله بأنه شفي وعوفي - وهو لا يقدر على النهوض.. وطلب السواك فتسوك وأطال السواك، وطلب من بعض أصهاره أن يرافقه بقية ليلته وعلل بأنه يخشى أن يرتاع ابنه الصغير المرافق له، وتوجه للقبلة وظل يذكر الله حتى نام فلما أقعد لصلاة الفجر وجد قد سلم الروح لبارئها.
وكان قبل نومه يشكر الله ويردد الشكر على أن قضى دينه وكان يردد إباحته لكل مخلوق.
الله أكبر ما أحلاها من ميتة رأى بعينه شفاءه من أكدار الدنيا، وختم حياته بالصلاة والدعاء والشكر والذكر والمسامحة ولقاء الله على طهارة.
إن مثل هذا من حسن الخاتمة التي ننشدها لذا أحدثت لنفسي هذا الدعاء تلقائياً.
ومن أحداث حسن الخاتمة التي تتوثب لها الأرواح وتخفق لها القلوب ما حدثني إياه أخي الشيخ محفوظ الشنقيطي مدير عام العلاقات بمجمع الملك فهد للمصحف الشريف عن شيخ القراء بالمجمع الشيخ عامر السيد عثمان رحمه الله تعالى أنه فقد حباله الصوتية في السنوات السبع الأخيرة من حياته، وكان يدرس تلاميذه القراءة فلا يفصح لهم إلا بشهيق وإيماء، ثم مرض مرض الوفاة وكان طريح السرير الأبيض بالمستشفى ففوجئ أهل المستشفى بالرجل المريض فاقد الحبال الصوتية يقعد ويدندن بكلام بصوت جهوري جذاب مدة ثلاثة أيام ختم فيهن القراءة من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، ثم أسلم الروح إلى بارئها.
قال أبو عبدالرحمن: وكان خال أبي وابن عم جدي عمر بن محمد العقيل رحمهم الله مؤذناً لمسجدنا الحسيني خمسة وثلاثين عاماً أدركت منها ربع قرن لم يتخلف عن فرض واحد لحر أو قر، ومات في الرياض وعمره تسعون عاماً وكان مقعداً فلما حضرته الوفاة بعد صحوة الموت وجده ابنه محمد واقفاً - بعد أن كان مقعداً- يصدح بجمل الأذان الله أكبر...إلخ.
وأهل الرقائق والوعظ يذكرون كثيراً من هِجِّيرى الشيوخ إذا خرَّفوا، وأحسنهم هجيرى من كان سلوكه حميداً، ونيته سليمة، ومعتقده محقق فإنه يلهج بما كان عليه من النور والضياء.
أسأل الله لي ولكم حياة طيبة كريمة سعيدة، وعمراً مديداً، يكسب عملاً صالحاً، وحسن خاتمة تبلغنا بحبوحة رضوانه.
قال أبو عبد الرحمن: غاية الضائعين إذا رقت قلوبهم أن يتكلوا على التوحيد ويرجون الجنة فحسب والنجاة من النار.
ولو علموا أن الجنة جنات ودرجات وبين كل درجة وأختها كما بين السموات والأرض لكان طموحهم إلى علو المنزلة.. وأهل المنازل الدنيا قصرت بهم أعمالهم فلا يستطيعون الصعود إلى المنازل العالية وأهل المنازل العالية يهبطون إليهم ويزورونهم.
قال أبو عبد الرحمن: ذلك والله يوم التغابن حقاً، ولولا أن الله ضمن لأهل الجنة جميعهم ذهاب الحزن، والغل وضمن لهم الرضى والشكر لكانت منازل الجنة ذات تغابن لا تطيقها البنية البشرية والله المستعان وله الحمد كثيراً بدءاً وعوداً.. والحمد لله. العالمين.
**
وكتبه لكم: (محمَّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -