د. عبدالحق عزوزي
إن أية ممارسة إصلاحية نهضوية تنموية وتقديمية يجب أن تطالها العقلنة وتحديثها، ولكن يخطئ الخاطئ عندما يظن عند سماعه لضرورة الإصلاح الديني أو التجديدي في الخطاب الديني أو في الفكر الديني أنه يجب استبدال الإسلام بدين آخر أو البوح بضرورة استقالة أحكامه الثابتة القطعية أو صناعة قواعد في الفهم أو التطبيق مخالفة للقرآن؛ فالعلماء الحقيقيون الذين تصدوا لمسألة التجديد والإصلاح في الفكر الديني أو في السلوك أو في الخطاب في العصور الآزفة القريبة، فإنهم تناولوها من ضرورة التكيف مع العصر في تثبيت لمعادلة التأصيل مع التجديد، وهذا التأصيل يكون برد الشريعة السمحة التي أتت بالوسطية والاعتدال، ودعت إلى التفكر واستخدام العقل، وإلى الاستنباط والاجتهاد، إلى مقاصدها وإلى مستلزماتها مع مسايرة ضروريات العصر.
ولله در زميلنا الأستاذ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب عندما نظر بحكمة لهذا الجانب، حيث إن مدار العلوم الإسلامية منذ مبتداها كان على النص نشأة وتداولاً، وكانت في منطلقها متمثلة له علمًا وعملاً، مما جعلها تنفتح على الكون وعلومه وعلى الإنسان ومعارفه... كما تجلت فيها أيضًا كثير من القيم العليا المزكية للإنسان والبانية للعمران. وهذه العلوم اليوم على الفضل والخير الكبيرين اللذين فيها، فيها أيضًا مجموعة من العوائق الذاتية تحول دون استئناف العمل البنائي والتجديدي فيها... وهناك بالأساس ثلاثة عوائق:
أولاً؛ أن العلوم الإسلامية قد دلفت نحو قُطب التقليد، حينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات؛ المعنوية والمادية. فحين استُبدل واقع «قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك» (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب هذه الجملة الرائعة لعبد الله بن عباس وكان فتى ساعتئذ)، بواقع مختلف، واقع «صه! واخرس قاتلك الله!»، بدأنا نرى بعض العلماء يتبوّأون مقامات فيها من الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق ما قلص من الهوامش النقدية، وضيّق من مجالات الاجتهاد، كما أدّى إلى ظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان.
ثانيًا؛ أن هناك إشكالاً نجده منسابًا في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلق بقضية الثابت والمتحول، فحين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم؛ حصلت مشاكل كثيرة..
ثالثًا؛ العائق المتمثل في قضية الباراديغمات؛ أي الأنساق والأطر المرجعية والمركبات المفاهيمية التي تقود عمليتنا التفكيرية والتحليلية، وتؤطر أضرب النظر الذي نستعمله ونوظفه.. وهذا أمرٌ لم يُعطَ حقه، لتحرير وتجريد الباراديغمات الكامنة وراء علومنا ومعارفنا الإسلامية حتى نتأكد من قرآنيتها وسلامتها، وحتى لا تبقى هذه العلوم والمعارف خاضعة لباراديغمات غير سليمة، يُضفى عليها بغير حق سربال القداسة، ويكون لها من التأثير السلبي علينا وعلى تاريخنا ما يكون.
ولعمري أن هذه العوائق التي يتحدث عنها زميلنا الأستاذ العبادي وغيرها حين استحكمت صيّرت العلومَ الإسلامية كما استقرت بعدُ، في غير قليل من مناحيها وأبوابها تضيق مناهجها دون الاجتهاد والإبداع.. وهاته مصيبة كبيرة وداهية عظمى خاصة عندما تسبب في تحجير العقول وتلويث قلوب الشباب والكبار وتودي بالحكمة والبصيرة التي عليهما قوام الفكر الصحيح وتجعل من الاجتهاد مسالة مستعصية ومن الحوار مبتغى مفقودًا ومن التعايش بين أبناء الوطن وبين الأنا والآخر ضربًا من الخيال... ثم إن الكارثة عندما لا تفهم المقاصد ولا أصول السياسة والحكم فتاتيك طوائف وأحزاب تقوض أصول الدين باسم الإسلام الذي تريد أن تدافع عنه، فأرادت به أن يكون سياسة والله سبحانه وتعالى أراد للإسلام أن يكون دينًا.
ثم إن العلوم الإسلامية في فترة تأسيسها كانت عبارة عن حوار مع الوحي (النص المؤَسِّس) للاتصال الوثيق والمبدئي معه، وهذا الحوار كان يُعطي بالفعل القابلية لاكتشاف مجموعة من الآفاق، ويكون ذلك استنادًا على استثمار المعطيات الموجودة، واستنادًا على المقاربة الآياتية للوحي وللكون، استضاءة بالإشارات النبوية المنيرة الموجودة في السنة النبوية المطهّرة... ممّا جعل هذا الحوار في الفترة الأولى يُولِّد مجموعة من المعارف، ولكن حين كَفَّ الحوار، بقينا منحسرين فيما أنجز خلال تلك الفترات الوضيئة الأولى، دون البناء على مكتسباتها، والقيام بما علينا نحن أيضًا من الواجب إزاء هذا الوحي المبارك، وإزاء متطلبات واقعنا. وإنه ليتعيّن على المسلمين اليوم استئناف هذا الحوار...