أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
خرجت في صبيحة يومٍ إلى مدرستي الابتدائية (التطبيقات المسلكية) في حي النَّمْصا بأبها، وقد حمّلتني أمي كيسًا، وطلبتْ إليَّ أن أمرّ به على جارتنا (صفيّة) التي كانت على طريقة كثير من نساء تلك الحقبة، تبيع وتشتري، في غرفة لها، بمقَدَّم البيت.
طرقت باب (صفيّة)، فخرجتْ وعليها آثار النوم، وتفرّستْ في وجهي، وكانت «ممتّعةً بإحدى عينيها»، فعرفتني، وأخذت الكيس، وشكرتني، وحمّلتني السلام لأمي، فانطلقت أغذّ الخطا إلى مدرستي، التي كانت على بعد نحو مئتي مترٍ من بيتها.
وكان طابور الصباح يُقام في الشارع الترابي المجاور، لأن ساحة المدرسة المستأجَر مبناها ضيقة، وبينا أنا واقف في ذلك الطابور، أتابع معلم الرياضة، وهو يأمر وينهى، ويحرّك يديه سُفلاً وعُلوًا، لمحتُ شبح امرأة قادمة من جهة طريقي الذي جئتُ منه، وظلّت المرأة تقترب، حتى وصلتْ، فتخللتْ صفوف التلاميذ وهي تنظر ذات اليمين وذات الشمال، كأنما تبحث عن أحد، والمعلمون والتلاميذ يسترقون النظر إليها دهِشين، ويا للفُجاءة العجيبة!
لقد وقفتْ إزائي، وإذا هي صفيّة التي كنتُ عندها قبل قليل، وما شعرتُ إلا وهي تملأ جيبي الصغير بحفنة حلوى!
موقف لا يُنسى في قلب صبي لم يجاوز الثامنة!
شعر أن الدنيا حِيزت له بحذافيرها، وأحسّ بنظرات الصغار تُحدِق به، وشعرأن أيديهم تهمّ ببلوغ جيبه، فصار يضع يده عليه، يتحسَّسه بين الحين والحين، ليطمئن إلى أنه لم يُنهب في غفلة منه.
رحم الله تلك المرأة الطيبة.