أ.د.صالح معيض الغامدي
لعل من أكثر القضايا إثارة للجدل في السيرة الذاتية قضية مصداقيتها من عدمها. ولكن قبل أن نناقش هذه المصداقية علينا أن نحدد ماذا نقصد بها، فلدى كل واحد منا ربما تصوره الخاص عنها. فبعضنا يرى أن مصداقية كاتب السيرة الذاتية تقاس بمدى كثرة اعترافاته ( عادة بالتجارب السلبية في حياته) وكسر التابوهات والمحرمات، وبعضهم يراها في مطابقتها لما يعرفونه عنه كونه شخصاً معروفاً في مجتمعه، ويراها بعضهم الآخر تكمن في الشمولية وكثرة التفاصيل، فبقدر ما تكون شاملة لسرد جوانب حياته تكون أكثر مصداقية، وهناك من يرى أن مصداقية السيرة الذاتية مرتبطة بذكر أحداث أو تجارب محددة مرتبطة بشخصبة الكاتب، كأن يتحدث عن تجربته في السجن مثلاً، وبعضهم يربطها بتوافق ما يسرده الكاتب من تجاربه الحياتية مع بعض ما يسرده مجايلوه الذين عاشوا تجارب مقاربة لتحاربه . إلخ
والحقيقة أن المقام يطول بنا إن نحن رمنا ذكر كل الأوجه التي تشكل مفهوم مصداقية السيرة الذاتية عند القراء جميعهم. ولكن ما ينبغي التركيز عليه في أي مناقشة لإشكالية الحقيقة والاختلاق في السيرة الذاتية هو الاعتراف بأن الحقيقية الممكنة في السيرة هي في المقام الأول حقيقة صدق التجارب الحياتة التي يرويها كاتب السيرة الذاتية كما يعلمها ويشعر بها هو، وليس كما يعلمها أو يشعر بها الآخرون. وإذا ما ركزنا على هذا الأمر فسنحد أن كثيرا من السير الذاتية تتوفر على قدر كبير( أو على الأقل مقبول) من المصداقية، حتى وإن اختلق الكاتب بعض التجارب، فكذبه سيجعلنا نتعرف على حقيقية شخصيته، كما يقول أحد النقاد. ولذلك يبنبغي لنا ألا نحمل كتّاب السيرة الذاتية فوق طاقتهم ونطلب منهم سرد حقيقية تجاربهم ومشاعرهم من منظورات أخرى غير منظوراتهم الذاتية.
إن كتاب السيرة الذاتية ليسوا معنيين بالدرجة الأولى بسرد الحقائق التاريخية الموضوعية، فهذه حقائق يهتم بها عادة المؤرخون، أما كتاب السيرة الذاتية فاهتمامهم هو سرد الحقيقة كما يرونها ويشعرون بها، وهذا هو ربما أهم أسباب وجود السيرة الذاتية أساساً.
أما الاختلاق فلا يعني بالضرورة الكذب والتدليس، وإنما يعني أن الكاتب قد يوظف قدراً معيناً من الخيال أو التخييل في سررد أحداث حياته وتجاربه بطريقة مترابطة ومنظمة وفق بنية معينة يختارها، كما أنه قد يعني التفسيرات والتأويلات التي يقدمها الكاتب وهو يسرد بعض تجاربه الحياتية من منظور بعدي مرتبط بزمن كتابة سيرته وليس بزمن حدوثها. وفي هذا السياق ينبغي ألا يتهم كاتب السيرة الذاتية بالكذب إذا أخطأ في تاريخ معين، أو ظهر في سيرته أحياناً ما يعتقد أنه ضرب من التناقض، فللذاكرة عيوبها وثقوبها وينبغي أن يدرك القارىء جيداً هذه الأمور كلها ولا يتخذ من هذه الأخطاء اليسيرة دليلاً على غياب مصداقية السيرة الذاتبة.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال تبرئة كل كتاب السير الذاتية من الوقوع في الكذب والتزييف تماما، فقد يقع شيء من ذلك ويستطيع بعض القراء الوقوف عليه بطرق متعددة، بيد أن قلة نسبة حدوث ذلك تجعلنا نحرص على أن نكون أكثر حذرا وترددا في التشكيك في مصداقية كتاب السيرة، وتجبرنا على تفهم الظروف المعقدة لكتابة السيرة الذاتية وللإكراهات التي تفرضها على كتابها. ولعلي أخصص مقالة قادمة لمناقشة الطبيعة الحساسة لنقد السيرة الذاتية بشكل عام.