د.حسن مشهور
إن حضور السيرة الذاتية في واقعنا الأدبي السعودي حديثا إلى حد ما بحداثة الأدب السعودي. حيث تشكلت السيرة الذاتية في الداخل السعودي وفق «أنواعيتين» متباينتين من حيث الحضور والعرض. فكانت الأولى تتناول السيرة الذاتية في قالبها السردي المكتوب، في حين كان الشكل الآخر الذي تقدم به السيرة الذاتية يتمثل في قالب السيرة المسموعة والمشاهدة.
ولقد كان الحضور السيري في الأدب السعودي المعاصر في البدء يتسم وإلى حد بعيد بالندرة في الحضور. ويُرَدُّ ذلك ربما للشعور بالخجل من فعل البوح الكتابي، لكن لاحقا ومع التطور النوعي الذي طال المجتمع السعودي، فقد بدأ يأخذ أشكالاً عديدة تقولبت كتابيا وتباينت في جانبي العرض والعمق النوعي في التناول.
ويمكن إجمال العوامل التي لعبت دوراً رئيسيا في ولادة وتشكل أدب السيرة الذاتية في الداخل السعودي في التالي:
أولًا: التحول الاقتصادي وتطور التعليم:
لقد كان المجتمع الذي قطن شبه الجزيرة العربية في مراحل تاريخية بعينها ونتاج جملة من العوامل منها السياسية والاجتماعية، يعاني من انتشار الأمية وتفشي الجهل بين المكون البنيوي المجتمعي. لكن ومع تأسس الدولة السعودية الثالثة في عالم 1902م، على يد المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود- رحمة الله عليه-، وما تلا ذلك من حالة الاستقرار الأمني في الداخل واكتشاف الثروة النفطية التي أوجدت عائدا ريعيًا كبيرًا، وُجِّهَ جزءٌ كبيرٌ منه للتعليم، فقد أدى مجمل ذلك ذلك إلى تولد مجتمع تنموي سعودي حديث يعد من الطراز الأول.
وبالتالي فقد تحول المجتمع السعودي من الحياة الرعوية والواقع المعيشي للبدو الرحل -الذين كانوا ما أن يستقروا في بقعة مكانية ما، حتى يسارعوا لمغادرتها إلى بقعة جغرافية أخرى بحثاً عن الماء والكلأ وأبجديات الحياة الأساسية- إلى مجتمع متمدن من الطراز الأول.
ومن ثم فقد حرصت الحكومات السعودية المتعاقبة لملوكنا العظام من أبناء الملك المؤسس- رحمة الله عليه-، على جعل المؤسسات التعليمية متواجدة في كل هجرة وبلدة سعودية نائية، ورصدت من أجل ذلك مبالغ مالية طائلة، كما عملت على جلب معلمين على قدرٍ عال من المهنية من دول عربية مجاورة، إلى جانب إرسال البعثات العلمية للدراسة في الدول العربية المجاورة كمصر ولبنان على سبيل المثال، بالإضافة للاهتمام بالتعليم العالي المتمثل في تأسيس الجامعات السعودية على اختلاف مشاربها وما تحويه من تخصصات علمية تتباين بين العلوم التطبيقية منها والإنسانية أيضًا.
بل أكثر من ذلك؛ فقد ألفينا السعودي يتلقى تعليمه في أرقى الجامعات الغربية منها والأوروبية، ويقضي إجازته الصيفية في أرقى المنتجعات العالمية، الأمر الذي مكنه من الاطلاع على ثقافات أخرى أكثر تمدنا ورقيا ومن ثم اكتساب حياة متمدنة مع ما تحويه هذه الحياة من رفاهية في العيش وتمتع بمباهج الحياة. فانعكس مجمل ذلك على شخصيته وسلوكه وتهذبت ذائقته ورقت ثقافته الفكرية ونظرته الإنسانية للعديد من الماديات والجدليات على السواء.
فتطورت الحركة الثقافية السعودية في عمومها، ولكن بشكل خاص في ذلك الجانب منها الذي يتعلق بالممارسة الأدبية الإبداعية فكان لدينا الكتابة الشعرية وغيرها من السرديات، التي كان من بينها كتابة السيرة الذاتية التي هي موضوع بحثنا وتعاطينا في هذا المقام. ويمكن للفرد أن يستخلص أهمية التعليم لكتّاب السيرة الذاتية من خلال عاملين:
أحدهما، أنّ التعليم يعتبر العامل الرئيس في تشكل الوعي عند كتاب السيرة الذاتية السعودية، حيث يشمل هذا الوعي، كلا من الذات والآخر كذلك. في حين يتمثل العامل الآخر في حقيقة أن التعليم يعد عنصراً تكوينيًّا من عناصر النص السيرذاتي، لكون العديد ممن قد كتبوا سيرهم الذاتية قد حرصوا على أن يضمنوا مسيراتهم التعليمية في سيرهم الذاتية المكتوبة.
وهو أمر نلحظ حضوره ونطالع تكثيفه في أغلب الكتابات السيرية السعودية، فالغالب يتحدث عن مراحل التعليم الأولى وذكرياته في قاعات الدرس وخاصة تلك الإشكالات الحياتية التي تنشأ جراء حالة التفاعل الثنائي والجماعي التي تحدث في المؤسسة التعليمية التي يتلقى فيها كاتب السيرة معرفته وعلومه.
ثانيًا: تطور حركة الصحافة والنشر الثقافي:
يدرك المشتغلون بالعمل الإعلامي بأن هناك علاقة ديناميكة يتعالق فيها التعليم مع الممارسة الصحفية على وجه الخصوص. والسبب في ذلك إن من يتلقى تعليما جيداً في اللغة العربية وغيرها من المواد التعليمية ويحوز ثقافة رفيعة سواء في الأدب أو في الشأن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الداخلي لبلده والعالمي على وجه العموم، هو من يستطيع بالتالي التصدي للعمل في مهنة المتاعب – أي الصحافة – كما تدعى.
وتتمثل وجودية الصحافة في الداخل السعودي، في دخول الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود في عام 1343هـ لمكة المكرمة؛ إذ أمر حينها بأن تصدر صحيفة أم القرى التي حلت عوضا عن صحيفة القبلة. ليليَ ذلك صدور جملة من الصحف السعودية منها على سبيل المثال لا الحصر، صحيفة صوت الحجاز التي صدرت في عام 1350هـ، وصحيفة المنهل التي صدرت في العام 1355هـ، وكذلك صحيفة المدينة التي تلتها في الصدور بعام وكان ذلك تحديداً في عام 1356هـ، وصولاً لصدور أول مجلة تعنى بالحراك الثقافي وأعني بها مجلة اليمامة التي صدرت في مدينة الرياض في عام 1372هـ والتي أشرف على تأسيسها الراحل حمد الجاسر.
فكان أن اتجه المثقفون والأدباء السعوديون صوب هذه الصحف والمجلات يكتبون وينشرون فيها الشعر وأنواع السرد؛ كالمقالة التي كانت تعالج قضايا أدبية وفكرية وثقافية واجتماعية الشيء الكثير. فأسهم ذلك بالتالي لتولد حالة من التنافسية بين هؤلاء الأدباء انعكست على التطورية الثقافية في الداخل السعودي.
ليتبع ذلك إطلال أجناس أدبية أخرى عبر هذه الصحف اتسمت في البدء بالتحفظ قليلًا فيما يعالجه محتواها وما يطرق من قضايا حساسة. من ذلك كتابات السيرة الذاتية، إلى جانب أنواع أخرى تتناول الكتابة عن الذات، أمثال: « المذكرات، وقد دل على ذلك اهتمامها بتعريف القراء ببعض أشكالها».
ولقد شجعت هذه الصحف أولئك المشتغلين بالكتابة السيرية لأن يعملوا على نقل « تواريخ ذواتهم الشخصية من الذاكرة الفردية إلى المدون النصي المقروء، بواسطة اللغة، ومن التصور إلى الممارسة الكتابية، عبر اشتغالهم المكثف على الذاكرة في إعادة تشكيل وقائع وجودهم ومغامراتهم المنقضية في الزمان والمكان»
وقد أدت عملية انتشار ثقافة الكتابة السيرية عبر الصحف لأن يعمد هؤلاء الأدباء السعوديون لاحقا للتعاطي مع أدب السيرة الذاتية باعتباره، فنًا قائما بذاته، حيث تمثل ذلك في إثرائه بالمزيد من النتاجات الكتابية عبر طباعة السير الخاصة ونشرها في دور النشر التي تعرض لهذا الضرب من الفنون السردية.