د.نادية هناوي
كتب قصاصو النصف الأول من القرن العشرين من العرب وغير العرب قصصا لها امتداد وتواصل مع السرد القديم كأصول وأشكال وأنظمة. وتقف المقامة في مقدمتها كنوع سردي منه انطلقت القصة العربية في خطاها الأول. ومن هنا لا يمكن التسليم بأسطورة الحضارة الأوروبية كحضارة أحادية متميزة في تأثيرها وفضلها على الإبداع السردي المعاصر. وهذا ما يؤكده بعض المفكرين الغربيين، ومنهم المفكر الفرنسي المعاصر جون تولان الذي رأى أن العلاقات بين العرب وأوروبا (ليست علاقة بين حضارتين حسب، بل علاقات مركبة ومتنوعة بين أفراد وجماعات عديدة). وشارك تولان الرأي مفكر فرنسي آخر هو هنري لورنس مبينا حقيقة وجود مكونات وجدانية مشتركة تعود إلى أكثر من قرنين من التاريخ المشترك. ولقد ساهم التجاور الجغرافي بين الثقافة العربية الإسلامية والعالم اللاتيني في ذلك كله، فانعكست تأثيرات حضارات الأمم السابقة على الثقافتين معا العربية والأوروبية ولكن الأخيرة، أخذت أشكالا مختلفة وصارت تدعي المحورية مهمشة الثقافة الأخرى.
وكان للتخلف والفقر الذي مرت به البلاد العربية بعد سقوط الحضارة العربية الإسلامية أن جعل الشعوب صاحبة الحضارات العريقة تبدو وكأنها بلا حضارة بينما بدا الأوروبيون بـ(مواصلتهم) التقدم العلمي أصحاب حضارة. ولا يمكن بأي حال أن يكون التقدم صانعا للحضارة في غضون قرنين أو أكثر بقليل. ومهما يكن فإن التقدم العلمي بَهَرَ العرب قبيل القرن التاسع عشر ولاسيما حين دخل الفرنسيون إلى مصر.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الأدب كان ذا منزلة عند العرب في ذاك القرن، وكانت البلاد العربية قد وقعت في مرمى الاحتراب الاستعماري الأوروبي، يضاف إلى ذلك ما ساد أوربا منذ القرن الرابع عشر من نزعة جديدة تزدري الشرق وتسعى إلى إحلال التراث اليوناني والروماني محل الثقافة العربية. فلقد ثار بترارك (1304ـ1374 ) على ما للكتّاب العرب من سطوة على فكر معاصريه مدعيا بافتراء في نصه (رسائل الشيخوخة) ان الإغريق أرسوا أسس الطب وأن العرب هم أطباء تافهون قد يتعين منعهم من مزاولته وأعلن صراحة القول ( إنني احتقر جنس العرب برمته).
وتشهد حركة الترجمة شاهدة قاطعة على ما أفادته أوروبا والأدب الأوروبي من الشرق وآدابه وبكل ما فيها من أساليب وأنظمة ناهيك عما قام به المستشرقون والفلاسفة من دوركبير في هذا المجال، ومن حسن الحظ كما يقول المؤرخ الاب لويس شيخو في كتابه( تاريخ الآداب العربية ) إن (الأدباء العرب ذوو أصالة وحتى مطلع القرن العشرين كانوا قد ثبتوا على الكتابة المنسجمة التي شاعت في عصور اللغة الذهبية ولم يتأثر بأساليب النظم الأوروبي إلا الذين انخدعوا وفضلوا القشور على اللب والسطحيات على الجوهر والشعراء الذين لم يمتلكوا الأصالة، فأخذوا ينشئون النثر الشعري ويرصفونه كمقطعات، ينسقونها دون ارتباط كبير في المعاني سواء تمثلوا بالسور القرآنية أم اقتدوا ببعض المحدثين من كتبة الإفرنج..) وهذا القول يدل دلالة لا لبس فيها على ما امتلكه مؤرخ هذه المرحلة من وعي بما للتراث السردي العربي من قيمة وما في الوافد الأوروبي من تقليد لذلك التراث وما للمستشرقين من أدوار وأغراض. بيد أن هذا الوعي بالتراث غاب عن بعض مؤرخي الأدب العربي المعاصرين فكانوا تابعين يرددون ما قاله المؤرخون والمستشرقون الأوروبيون، وهو ان الأدب العربي الحديث مدين كليا في نهضته وتطوره إلى الأدب الأوروبي، وأنه أخذ عنه الأساليب والقوالب استنادا إلى ما حصل في أوروبا من ثورة علمية واستنارة فكرية.
وما من أثر أو مصنف من مصنفات الأدب التي كتبها العرب ما بين الربع الأول من القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين إلا نجده يطور متونا لها حضورها الموروث كما كان الأديب الأوروبي يطورها وساهم انبثاق المذاهب الأدبية في أن يكون للنقاد والمفكرين تأثير في توجيه الأدب وجهة واقعية اجتماعية طبقية.
وقد نجد نقادا غربيين يقرون بالصلات المتجذرة بآداب العصور الوسطى لكنهم لا يذهبون إلى أكثر من ذلك، فرينيه ويليك يعترف بأن الأدب ظاهرة عالمية وأن:( أشكال الأدب الرفيع ترجع إلى الأشكال الشعبية فرومانسيات الفروسية مثلا تحولت إلى رومانسيات الجن وأدب الطبقة العليا احتاج إلى إعادة البربرية وأن تأثير الأغنية الشعبية والبالاد الشعبي في نهاية القرن الثامن عشر مثال واضح ولكنه أيضا يمكن أن يكون حجة ..فمفهوم الأدب كظاهرة عالمية ممتدة إلى أعماق ماضي الإنسانية يتضمن ما يسميه الأدب الانجليزي الأدب الشفهي).
ولا يخفى ما وراء الوصف بالبربرية من نظرة متدنية لتلك المرحلة التي عرفت أنواعا من الأدب فما كانت بدائية أوكانت بلا قيمة جمالية.. وإلا لماذا استمر تأثيرها الأدبي إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين؟!. وهل يمكن إنكار حقيقة أن الحركة الرومانسية ظهرت على خلفية ما أحدثته القصص الهزلية والخيالية ولاسيما حكايات ألف ليلة وليلة من تأثير وغلبة، وأول طبعة لها صدرت عام 1792 ومنذ ذلك الوقت وهي تعرف بالليالي العربية ؟!.