د. شاهر النهاري
عمره لا يتجاوز بضع سنوات، وملامحه المختبئة تعطي أصغر من ذلك بكثير.
جسمه محشور المحيط مكور الانحناءات فيتعجب من يراه، ويتساءل أن كان قادرا على السير مثل غيره من الأطفال.
كان يجلس في صالة المطار بعيدا عن كراسي والده ووالدته، والخادمة المسخرة بالمتابعة تجلس على طرف كرسيها من الجانب الآخر متأهبة.
والدته بكمامتها كانت ترصد الوجوه والزوايا القريبة والبعيدة تفصص من يجلس بالجوار، وترمق من يمر هنا أو هناك، وتلتقط بهاتفها السنابات تشارك بها رواد عالمها الافتراضي.
والده كان منشغلا بهاتفه، يرفع صوته غير مكترث بالمكان، وبين الفينة والفينة يدني هاتفه الثاني من عينه، ويتأفف، ثم يعطي صورة المدير يدبر أعمال مجموعة من الأجانب عن بعد مستخدما لغة انجليزية مكسرة، دون النظر لوجوه من كانوا حوله، وبحماس يصرخ ويشرح ويشدد على إفهامهم دقائق أوامره، حتى شعر كل من في الجوار أنهم في ورشة عمل يتخيلون فيها عن البعد كل صور معاناة تلك العمالة الشقية في تنفيذ دقائق أوامره.
الطفل كان يجلس متربعا على الكرسي، وهو لا يكاد يرفع عنقه المنحني نحو حجره طوال الوقت، وعيناه ملتصقتان بجهاز (الأيباد)، فتلمح تفاعلات جسده المستدير يموج، وهو بلا وعي يمد يده للخادمة بتكرار، ودون أن ينظر لها لتقوم بتزويده بما تعرف أنه يحتاج إليه من قطع الشكولاتة أو شرائح البطاطس المجفف، أو رشفات من المشروب الغازي، ليتمكن من ترطيب ما في فمه المستمر في المضغ والبلع.
أحزنتني منظومة ذلك الطفل المسكين، وهو يتجسد حالة من معاشرة الوهن والكسل، فكأنه لم يعرف للطفولة طعما، وها هو يجلس في صالة المطار الفسيحة والواجهات الزجاجية تظهر منها حركة الطائرات المنتشرة على أرض المطار، والتي تتحرك نحو المدرج، والبعض منها يُقلع، وأخرى تهبط، وهو لا يهتم كما كان الأطفال الآخرين، فلا يشده شيء أكثر من شاشة براقة بين يديه، يحتضنها ويدنيها لمسافة أقرب لعينيه، ونظارته وأفقه الافتراضي.
مسكين هذا الطفل المستدير على خصوصية وحدته، فلم يفكر حتى أن ينظر حوله لطفل آخر، ولا أن يشارك أحدهم ولو نظرة، ولم تلهمه خطواتهم الشقية، ما يؤكد أنه لم يعرف النشاط يوما، ولم يحاول أن يجري في الممرات الطويلة، أو أن يتشاقى كما يكون من هم في مثل عمره.
عمره الزمني لا يزيد عن خمس سنوات، وعمره الواقعي خمسون سنة تؤكدها جلسته المتهالكة، ومفاصله شبه المربوطة، ونظارة قعر الزجاجة، التي يعيد تثبيتها على عينيه كلما زحلقت على أنفه الصغير، ببسمة تداعبها البراءة بصلادة، والدهشة تتبادل لحظاتها على شاشته، والتي يحتضنها بخيوط من شغف الكآبة.
يشعر كومة الطفل الطري بأن الكرسي صلب القاعدة، وأن جسده يؤلمه من استمرارية الجلوس فينثني على جانبه، والخادمة تدس تحت عنقه مخدة على شكل الكلية، فيتموضع ويقوم بتعديل شاشة الجهاز بين يديه لكيلا تفوته تراتبية المشاهدة المشوقة، ولعبته، التي يحرك بها سوبر هيرو يجري ويقفز ويحطم الأشياء من حوله، ويحمل الحلم ويطير، ويدمر الأعداء، ويقتل، ويحرق المدن بمشاعر ينقصها التوازن مع الواقع المترجرج بالدهون.
يتناول كمشة قطع بطاطس جديدة، ولا يكاد يبتلعها، حتى تغفا عينه، فتقوم الخادمة بالتسلل لعمق حياته وسحب الجهاز من بين يديه بحذر شديد، وتبادر بتثبيته في شاحن متنقل، وكأنها تخشى مقدار صخبه وغضبه، لو استيقظ من غفوته ووجد الجهاز غير مشحون.
هذه الصورة ليست تخيلية، ولست هنا متصيد فجوات، ولا أحاول الإساءة إلى بعض أنواع الأسر المرتسمة بشياكة نقاط الخيال، ولا الارتسام بالناقد البعيد عن الواقع، ولست أتعنصر ضد الأطفال ضخام الأوزان، ولكن واقع الحال يعزف على ضيم أوتار القلوب، وهذه الملامح موجودة في واقعنا، وهذا الطفل ليس نادر الوجود، بل إنك تكاد تراه في كثير من البيوت، حتى وإن ربتت عليه لمسات عطف تؤدي الواجب، إلا أنه فعلا يعد ضحية من ضحايا تحضر عصرنا الحديث، عصر التكنولوجيا والتقنية، وضحايا التفكك الأُسَري العجيب، الذي أصبح ظاهرة ملموسة، لم نعد نتعجب أن تختتم في حالات كثيرة باحتفال ما بعد الفراق على مواقع التواصل.
أنا بسردي لا أدعي الملائكية، فأنا مثل معظم أعضاء مجتمعنا التجريبي، الذي تبدلت حوله الأسس والمفاهيم بفعل الوهج والمطاردة لكل جديد وعجيب، مجتمع أصاب بعضهم جنون البعد عن الأسرة، وابتلي البعض بالتكاسل، وتم معاملة الصغير كالسجين العاجز، مجتمع تكهرب وأصابه شلل الخمول الالكتروني.
قصة تمنيت لو أتابع خطواتها، بعد صعودهم للطائرة، ومشوار الرحلة محشورين في كراسي الضيق، والنزول في مطار بعيد، ومعرفة كنه علاقات تلك الأسرة مع محاور حياتهم، وبيتهم، ودون أن أفتح عدسة هاتفي، لأنقل للعالم من بعيد أمرا يحدث حولي، حتى ولو أخفيت الوجوه، وطمست رغبات الفضول والتربص، واغتيال الخصوصية، ولكني آثرت أن أكتب، فالبوح على الورق أصبح سراً لا يشيع، كونه ل يس كفضائح مواقع التواصل، ولكني بالبوح أحاول تأطير خللاً اجتماعياً ونفسياً، لا أتاجر فيه بدوري الإصلاحي، وعذري أن الأوراق لم تعد تقرأ إلا عند قلة، فيمكن اعتبارها سرا.
ومن نتاج تلك الدقائق، تمنيت أن أتغير أنا، وأن يتغير أحبابي، وأن نفهم ماذا نفعل نحن الأهالي بالأبرياء الصغار من حولنا، وأن يتغير معي سائر المجتمعات، وأن يقوم كل رب أسره بوضع ساعات معينة وأماكن معينة لاستخدام هذه الأجهزة الخالقة للتوحد في العوالم الافتراضية، التي تحرمنا وإياهم من عوالم الواقع، وكم تمنيت أن ينطق فينا الطفل، وأن يصرخ المهمل منهم طمعا في حيوية الحركة وإنسانية الخفة والنباهة والاكتشاف بالحواس الفاعلة، وتشرب خبرات حياة الواقع عمليا، وليس من الواقع المتخيل.
وفي نهاية كمدي حمدت الله على أني لم أعش وسط ظروف مستحدثة، وأسرة تصنع مني الطفل العجوز.