د.رقية بنت ناصر الحربي
لا أغالي حينما أقول: إن ثقافتنا العربية هي ثقافة الشاهد؛ وذلك لما يقوم به الشاهد من دور حجاجي في بنية هذه الثقافة؛ ولما يمتلكه من حضور فاعل في شتى مباحثها وحقولها المعرفية. وتظهر حجاجية الشاهد-خاصة-فيما يقوم به من أدوار إقناعية عند وقوع الخلاف العلمي حول قضية من القضايا، ومن ثم تفزع أطراف الخلاف إلى الشاهد؛ حتى يقوم بالتماس البرهان كل لمذهبه وهو ما يمنح الشاهد بُعدًا أيدولوجيا لا يمكن إنكاره في تاريخ التراث العربي.
ولقد لعب الشاهد -من منظور تداولي- أدوارًا خطيرة في تاريخ الفكر العربي، إذ قام بأداء أدوار بالغة الأهمية في خدمة الجدل وتفنيد وجهات النظر المعارضة في شتى السياقات. ومن يرجع إلى كتب الخلاف النحوي والفقهي يجد مصداق ذلك واضحًا جليًا. ويتأكد ذلك من خلال المعنى المعجمي للشاهد؛ فهو يدور حول دلالات تتصل بالتدعيم والإثبات والقطع واليقين والشهود والمعاينة والتوثيق ونفي الخطأ والتوهم. ووفقًا لذلك فإن الشاهد ينطلق من دلالات التوكيد والتصديق والبيان، وذلك في سياق إثبات الحق والصدق في الرأي وتعزيز وجهات النظر.
وعلى صعيد المصطلح فإن الشاهد يدل على ضرب من الاستدعاء الذي يقوم به التصنيف لنصوص سابقة حتى يقوم بتدعيم وجهة النظر التي يتبناها. وكل ذلك يصب في حجاجية الشاهد ودوره الكبير في الإثبات والتعضيد والنفي والتفنيد.
وتتأكد فاعلية الشاهد ومركزية دوره من حضوره الكثيف في شتى خطابات الثقافة العربية بدءًا من التفسير القرآني والمذاهب الفقهية ووصولًا إلى المصنفات النحوية والبلاغية، وهو بالطبع لم يغب عن كتب الأدب والمعاجم.
وفي سياق التأليف المعجمي كان الشاهد أحد العناصر الرئيسة في الخطاب التأليفي، فالشاهد في المعجم أساس من أسس التصنيف الذي لا يخلو منها خطاب غير أن الشاهد في المعجم يتسم بطبيعته التي تجمع بين أنواع شتى من الشواهد؛ فالخطاب المعجمي يستدعي الشواهد المختلفة ويوظفها في سياقات متباينة، فلا يغيب عن بنية خطابه الشاهد القرآني ولا شاهد الحديث الشريف، كما لا يخلو الخطاب المعجمي من الشاهد الشعري والنثري من كلام العرب وحكمهم وأمثالهم السيَّارة.
وقد شكل الشاهد مصدرًا بالغ الأهمية للمؤلف العربي؛ لأنه ساعده على القيام بأدوار التوضيح والتوثيق من جهة، ومن جهة أخرى قام بأدوار التأصيل والاحتجاج والتقعيد خاصة في العلوم ذات الطابع المعياري كالنحو والبلاغة، وقد كان حضور الشاهد فيهما ساعيًا إلى شرح الفكرة وتأييدها بالدليل، فالمصنف في سياق خطابه يستدعي الشاهد تعميقًا لطرحه والتماسًا لصدق المطروح.
ويستمد النقاد والبلاغيون كثيرًا من أحكامهم من بنية الشاهد، بل إن الشاهد كان مصدرًا للمعرفة في كثير من خطابات الثقافة العربية، ومن يرجع إلى كتب الجاحظ -مثلًا- يجد شواهد واضحة على ذلك، فقد كانت كتاباته قائمة على الاحتجاج والجدل، وعرض آراء مختلفة حول موضوع بعينه، ومن ثم كان استدعاؤه للشاهد قائمًا على حاجته إلى تعضيد وجهة نظره وتدعيم قناعاته. ولم يكن الجاحظ بدعًا في ذلك، وإنما كان كل مؤلف بحاجة إلى الشاهد للغايات نفسها، وهو ما يدل على أن مركزية الشاهد في الثقافة العربية أمر لا جدال فيه.