أحمد بن عبدالله الحسين
دافيد بن غوريون.. التاريخ يتحدث، يحمل سردية مختصرة لحياته وأفعاله.. ولد عام 1886م، وهو شخص له بصمة تاريخية. وذِكرُه يلازم كذلك اسماً آخر، هو حاييم وايزمان؛ إذ إن كليهما جمعهما التاريخ في نفس المكان في بلونسك المدينة البولندية، ليكونا أبرز من أسهما في ذاكرة الصهيونية العالمية بترسيخ احتلال فلسطين.
بل لا غرو أن يُوصفا أن حاييم هو مهندس إسرائيل وأول رئيس لها، بينما دافيد بانيّ إسرائيل وأول رئيس وزراء لها.
منشأ بن غُوريون..
نشأ دافيد في محيط جالية يهوديه نازلة في مدينة بلونسك الصناعية التي تقع على النهر الذي تُنسب إليه، على بعد ستين كيلومتراً شمال غرب وارسو البولندية.
كان والد دافيد واسمه أفيجدور محامياً أيام القياصرة الروس الذين حكموا تلك البلاد -آنذاك-.
عُرف افيجدور بحرصه على تعليم أبنائه اللغة العبرية، بجانب الروسية اللغة الرسمية، وعلّمَ دافيد منذ طفولته العهد القديم والتلمود. تلك البيئة التي نشأ عليها دافيد وأبوه، جعلت كليهما أنصار الفكرة الصهيونية التي تحدد مفهومها في المؤتمر الأول عام 1897م في بازل وقرارته التي تبشر بها المنظمة الصهيونية لتمكين يهود العالم بالاستيطان في فلسطين، وتكوين دولة إسرائيل.
وأصبح الصهيوني هو من يؤمن ببرنامج بازل، ومن هذا المؤتمر في بازل تم فتح اعتماد مالي وطني يهودي وتأسيس مصرف يهودي مركزي في لندن لتمويل استعمار فلسطين حيث تكوّن عام 1899م تحت مسمى Jewish Colonial Trust.
هكذا انطلق دافيد بن غُوريون في ماراثونية الدعوة والتأثير للفكر الصهيوني، وكسب الأنصار عن طريق كتاباته وسلسلة اجتماعاته مع مختلف الطوائف اليهودية في روسيا القيصرية، حيث كانت العبرية لغته التي يتحدث بها، وبهذا تمكن من نشر مكاتب متابعة وتبشير بالمبادئ الصهيونية في روسيا القيصرية.
ولطالما ردد بن غُوريون جملته الشهيرة أن الصهيونية ليست البحث عن وطن نهرب إليه من الاضطهاد الأوروبي بل العمل على العودة إلى فلسطين.
مسار الصهيونية..
تعاضدت الجهود مع مرور السنوات، وتنفيذ بنود مؤتمر بازل، حتى توصلوا في عام 1925م، وضمن أهداف مؤتمر بازل أن افتتحوا الجامعة العبرية في القدس، بحضور اللورد بلفور وزير خارجية البريطاني.
وفي مسار الصهيونية وأهدافها، اتفقوا على علم يهودي قومي من اللونين الأزرق والأبيض، ونشيد لدولة إسرائيل التي لم تُعلن بعد، وأُطلق عليه اسم Hatiqwa وتعني الأمل.
أما بن غُوريون فقد توجه إلى فلسطين عام 1906م مع صديق له اسمه شلومو زيماخ، وحين وصوله يافا باشر اجتماعاته مع الصهاينه المحليين الذين كانوا تحت مسمى جماعة تدعى «فوعلى صيون».
وكان لقاؤهم في بلدة صغيرة اسمها «فتاح تقوه» أي مفتاح الأمل، التي تأسست عام 1878م، وتعتبر مستعمرة أمّ، ومنها ولدت مختلف المستعمرات الصهيونية في فلسطين.
ويرجع الفضل في تأسيس هذه المستعمرة وغيرها إلى البارون روتشيلد، الذي ينتمي إلى عائلة روتشيلد اليهودية الألمانية المنشأ، ذات النفوذ الأخطبوطي في عالم المال والاقتصاد.
بن غُوريون وصل فلسطين عام 1906م، حيث عمل صحفياً في القدس، ثم تعين رئيساً لتحرير مجلة «هااحدوث» اليهودية.
بعدها قرر بن غُوريون في سبيل أهدافه الصهيونية الذهاب إلى تركيا ليتمكن أكثر في إدراك القوى المؤثرة على المنطقة، حيث تركيا -آنذاك- صاحبة السيادة الرسمية على فلسطين.
بدأ بدراسة اللغة التركية، ثم التحق بدراسة القانون باسطنبول عام 1912م في جامعة القسطنطينية.
حينما أُعلنت الحرب العالمية الأولى عام 1914م، قرر تعبئة فيلق لخدمة قضية اليهود في فلسطين، لتثبيت حقهم فيها، فانضم الفيلق إلى الجيش البريطاني، بعدها عام 1915م تابع تخطيطه لنصرة تمكين اليهود من فلسطين بالسفر إلى نيويورك للعمل مع يهود أمريكا لتكوين جماعة «حلو صيم» أي الرواد. وهذه الجماعة تلقت تدريبات عسكرية في كندا، وكان معهم بن غُوريون، وأصبح هذا الفيلق اليهودي الأمريكي تابعاً للفيلق البريطاني لغزو فلسطين.
القدس.. كانت تحت الحكم التركي إلى حين وعد بلفور عام 1917م. بن غُوريون بعد الحرب العالمية الأولى كان أحد مؤسسي عصابات الهاجاناه عام 1921م، التي تمرست في تهجير الفلسطينيين من قراهم وبيوتهم بالقتل والنهب بدعم إنجلترا لهم بالأسلحة.
بن غُوريون.. لم يرتخِ في طموحة الصهيوني فاندفع لتشكيل نواة جيش حديث يمتلك مختلف الأسلحة، بل وأنشأ مع الجيش هيئة العمال اليهود باسم منظمة الهستدروت التي تطورت مع الزمن لتكون مؤسسة جبارة تمس بصلاتها معظم يهود فلسطين.
وبدهاء بن غُوريون تمكن من إدخال بعض العرب فيها، ليسهل تهويدهم وكسبهم للصهيونية.
الحرب العالمية الثانية.. حينما طارت شرارتها عام 1939م، سارع بن غُوريون مع الهاجاناه، وكانت يومئذ ينتسب إليها خمسون ألف مقاتل، ولديها مخابرات دقيقة تحيط بكل صغيرة وكبيرة بفلسطين.
فأدرك بن غُوريون أن الوقت مناسب لتُقطف ثمرة الحرب العالمية الثانية بإعلان دولة إسرائيل. كما قطفت الصهيونية من الحرب العالمية الأولى وعد بلفور الذي كان وزير خارجية بريطانيا.
بلتيمور في نيويورك.. عقد فيها مؤتمر في مراسم تحول حاضن الصهيونية العالمية من إنكلترا إلى أمريكا، وبهذا تحقق تطور مهم لاين غوريون وللصهيونية، تمثل في ميثاق بلتيمور في نيويورك عام 1942م. المؤتمر حضره نائب الرئيس الأمريكي هاري ترومان، والمنظمات اليهودية في العالم، وقد خرجت قرارته بالتالي:
- إلغاء الانتداب البريطاني في فلسطين.
- إعلان فلسطين دولة يهودية عقب الحرب العالمية الثانية.
- إهمال فكرة التفاهم مع العرب، سواء كانوا سكان فلسطين أو البلاد المجاورة.
بن غُوريون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1948م، ووفقاً لمؤتمر بلتيمور، عرض مسمى إسرائيل لهذا الكيان، وتمت الموافقة عليه، حيث أدلى بعدها ترومان الذي أصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية اعتراف أمريكا بها، تبعه مباشرة اعتراف مماثل للاتحاد السوفيتي.. ومن الدول التي اعترفت بكيان دولة إسرائيل إيران عام 1948م وتركيا عام 1949م. وأصبح بن غُوريون أول رئيس وزراء، ليستمر مسيرته في بناء وتنمية هذا الكيان، بجهود لم يتوانَ بها، لتصبح بعدها دولة نووية بدعم غربي سجله التاريخ.
تُوفي بن غُوريون مؤسس إسرائيل عام 1973م، ليذهب إلى قبره، تاركاً لأولاده وأحفاده الاستمرار بالبناء والتوسع، يُراهنون على تأصيل الغفلة والتجهيل لما صنعوه، والظلم الذي خططوا له حتى تُمحى من ذاكرة الأجيال التي تجاورهم.