محمد سليمان العنقري
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خرجت أوروبا مدمرة منهكة ترزح تحت انتشار الفقر والبطالة وتوقف اقتصادياتها عن العمل فجاءت الفكرة من الجنرال جورج مارشال الذي كان رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية ومن ثم وزير الخارجية الأمريكي منذ يناير 1947 لإطلاق مشروع إعمار أوروبا وإنعاش اقتصادها وـعلن عن ذلك في خطاب أمام جامعة هارفارد وأسست هيئة من حكومات غرب أوروبا باسم منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي للإشراف على إنفاق مبلغ يقارب 13 مليار دولار أمريكي وقد ساهمت هذه الأموال في إعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية واليوم هذه الدول التي تشكلت منها منطقة اليورو ضمن الاتحاد الأوروبي أصبحت بمجموعها تحتل المركز الثالث من حيث الناتج الإجمالي لها مع تطور تكنولوجي وصناعي متقدم جداً.
يذكرنا هذا المشروع بحالة غالبية الدول العربية التي وقعت في مستنقع ما سمي زوراً بالربيع العربي وأدى إلى تدميرها وتحول بعضها لدول فاشلة اقتصادياً واجتماعياً وواقعياً فإن جذور هذا الفشل ليست وليدة ما بعد 2011 بل قبل ذلك بعقود وبعضها منذ نيلها استقلالها عن الاستعمار الأوروبي حيث تولى الحكم فيها جنرالات الجيش ولم يتمكنوا من تقديم أي مشروع تنموي مستدام مما أدى بها لحالة من الاختناق الاقتصادي نتيجة عدم مواكبة النمو باقتصادياتها لاحتياجات السكان وضعف استخدم الموارد والإمكانات بكفاءة مناسبة فالناتج الإجمالي العربي يقارب 3.3 تريليون دولار لكن قرابة 65 بالمائة منه يأتي من دول الخليج العربية الست التي تعد الاستثناء في الوطن العربي والشرق الأوسط من حيث قوة اقتصادياتها واستقرارها واستدامة التنمية بها حتى أصبحت من أهم دول العالم اقتصادياً وقطباً لجذب الاستثمارات بالمنطقة مع علاقات تجارية واسعة بمختلف القارات والدول حيث استثمرت بالإنسان ووظفت الإمكانات بكفاءة عالية وتمكنت من عبور كل مراحل تحولات العالم اقتصادياً وسياسياً بنجاح كبير وأصبحت الفجوة كبيرة بين دول الخليج لصالحها مع غالبية الدول العربية من حيث قوة الاقتصاد والتنمية البشرية والتقدم التقني والمعرفي وبمعنى آخر دخلت دول الخليج القرن الواحد والعشرين وتتماشى مع كل معطياته وتوجهاته وبقي العديد من الدول العربية الأخرى في القرن العشرين وبعضها عاد لما قبل ذلك والحديث هو ليس للمقارنات إنما لتوضيح الفوارق بين من يستثمر الثروة والإمكانات للتنمية والرفاهية ومن عطلها على نفسه رغم ما يمتلكه من إمكانات وقدرات هائلة وثروات بعضهم يفوق ما يملكه بعض دول الخليج لكن دون أن ينعكس ذلك تنموياً على شعوبها بل زاد الفقر والتخلف بكافة المجالات لدرجة أن بعض مثقفي تلك الدول قالوا نحن الدول الوحيدة التي لو عادت لتاريخ قديم تصبح متقدمة قياساً بواقعهم الحالي.
فغياب التنمية عن تلك الدول أسفر عن ضعف بقدراتها لمواجهة الأزمات أو التحديات الاقتصادية والجيوسياسية وأصبح هروب العقول منها خارجياً سمة بارزة فكثيراً ما تسمع بأسماء ناجحة في أوروبا وأمريكا ودول متقدمة وكذلك في دول الخليج العربي تعود أصولهم لتلك الدول فهجرة العقول أحد أكبر الخسائر التي لحقت بهم وهي من صنع سياساتهم عبر عقود طويلة من الفشل التنموي لكن واقع هذه الدول والمنطقة اليوم يتطلب مشروعاً تنموياً على غرار مشروع مارشال في أوروبا فالوقت ليس للحديث عن الماضي بل الحاضر والمستقبل فدولة مثل إسرائيل التي زرعها الغرب في عالمنا العربي ودعمها بكل المجالات يصل حجم اقتصادها إلى 480 مليار دولار فتركيز الغرب كان على تمكينها اقتصادياً بسياسات دعم وتفضيل تجاري وغيره بالإضافة للتمكين العسكري والغطاء السياسي وكان يمكن لدول عربية خاض بعضها حروباً مع دولة الاحتلال الإسرائيلية أن تبتلعها اقتصادياً وتحجمها بكل المجالات لو وظفت إمكاناتها للتنمية فقط بدلاً من المغامرات الأمنية والعسكرية التي خاضوها دون تحقيق منافع مهمة بل خسروا إمكانات كبيرة فالهزيمة الحقيقية لتلك الدول لم تكن بالحروب العسكرية بل بانعدام التنمية التي فقدوا خلالها سنوات دون بناء ونماء ليصلوا لمرحلة من التشتت والتقلبات الاقتصادية وبعضهم يعيش عملياً مرحلة انهيار اقتصادي ولذلك لابد من أن تبحث هذه الدول عن إطلاق مشروع تنموي حقيقي ينعكس عليها وعلى الشرق الأوسط بأكمله من خلال وضع خطة واضحة وواقعية وتوظيف كل الجهود لتحقيقه والتي تتطلب تغييراً بالتشريعات والتوجهات والإصلاحات اللازمة للبدء بذلك كأول خطوة على طريق التنمية والاستفادة من خطط وبرامج دول الخليج العربي الناجحة باعتبارها الأقرب جغرافياً لها.
استفاقت تلك الدول على حقيقة مؤلمة بأنها فقدت عقودا من الزمن دون حراك تنموي حقيقي ولذلك شعرت فوراً بالفوارق مع الدول التي سبقتها تنموياً والتسارع الكبير بالعالم تقنياً واقتصادياً أصبح يمثل تحدياً مضاعفاً لها وإذا لم تعترف بأزماتها وتضع خارطة حلول وتحديد لإمكاناتها واحتياجاتها ستبقى تدور في نفس الحلقة التي تقع فيها الآن دون أن تتقدم وستفقد الكثير من الفرص التي يعيشها العالم اليوم مع التحولات الاقتصادية وإعادة توزيع وتوجيه الاستثمارات بكافة المجالات.