محمد سليمان العنقري
القرن الحالي يتميز عن ما سبقه بأنه لا يعطي فرصاً لمن مازال مسكوناً بحقب سابقة التي كان العالم فيها يتصارع بين قطبين أميركا والاتحاد السوفيتي إذ كانت الأيديولوجيات طاغية وتتحكم بمسارات الاقتصاد خصوصاً لدى الأنظمة الاشتراكية والشيوعية مما أفقدها الكثير من الفرص وتوسعت الفجوات مع الدول الرأسمالية لصالح الأخيرة من حيث التقدم العلمي والتكنولوجي وأيضاً قوة اقتصاداتها وسيطرتها على النظام المالي العالمي لكن وبعد تفكك الدولة السوفيتية تغير كل شيء في العالم ليصبح أحادي القطب باعتبار أن الغرب بقيادة أميركا هو من انتصر ولذلك أخذ العالم مساراً مختلفاً عن السابق من حيث موازين القوى والتوجهات حتى بزوغ نجم الصين حالياً والتي تتحرك بإطار يختلف عن السوفيت حيث ركزت على الاقتصاد وعززت مكانتها الدولية فيه وأصبحت قطباً رئيسياً بالتجارة الدولية.
لكن مع كل هذه التحولات في العالم والتسارع الكبير نحو الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي والتنافس المحموم بين الدول التي تتصدر المشهد الاقتصادي يظهر جلياً دور الدول التي ركزت على التنمية البشرية بمعطياتها الحديثة حتى تواكب هذا العصر الحديث بتفاصيله المتشعبة فكان لشعوب هذه الدول التي انعكست خطط التنمية عليها الدور البارز في تطور دولهم والزيادة المهولة بالاختراعات والاكتشافات العلمية وتأسيس شركات عملاقة ساهمت بنهضة غير مسبوقة لدولهم وفي منطقتنا العربية والشرق أوسطية عموماً يظهر نموذج دول الخليج العربي الأفضل بالمنطقة حيث ركزت خطط التنمية على الإنسان واستثمرت الثروات لأجل بنائه علمياً ومعرفياً وهو ما انعكس بمستوى متقدم للجامعات في الخليج والتي أصبح بعضها من بين الأفضل عالمياً بالإضافة لبرامج الابتعاث الضخمة خصوصاً في السعودية حيث يسهل ذلك من سرعة نقل العلوم المتقدمة للاقتصاد المحلي إضافة لبرامج تنموية استهدفت استثمار رأس المال البشري باستقطاب الاستثمارات المميزة من أهم الشركات العالمية فهذا التطور المتسارع في دول الخليج والسعودية على رأسها جعل منها دولاً بعيدة عن محيطها من حيث التقدم العلمي والاقتصادي والتوسع بالاقتصاد الرقمي فالخدمات فيها تفوق بتطورها دولاً تصنف صمن الشرائح المتقدمة بالعالم ولذلك بات المواطن بالخليج يمتلك أسلحة العلم والمعرفة وأتيحت له الفرص لكي يكون عنصراً فاعلاً في التنمية وتحقيق مستهدفات الرؤى الاقتصادية التي يجري تنفيذها فالإمكانيات تستثمر بكفاءة عالية رغم التحديات التي يعيشها عالمنا اليوم ووفق كل هذه المعطيات فإن نظرة الشعوب الخليجية عموماً لما يدور في العالم بمختلف القضايا تتماشى مع الواقعية والتقييم الدقيق لها والتفاعل معها بإيجابية وفق الإمكانيات والاحتياجات والمصالح والقدرات بعيداً عن المهاترات والمشاعر والتوصيفات الشعبوية والابتعاد عن الاستعراض والشعارات السطحية والأفكار المتهالكة أو التكسب بالمواقف التي لا تقدم ولا تؤخر في الواقع.
وعلى النقيض فإن الدول التي لم تدخل هذا القرن وتخلفت بالتنمية كثيراً أصبحت شعوبها أكثر انفعالاً وتمسكاً بالماضي البعيد كأنه هو معيار تقدمها في الوقت الذي لم تحافظ فيه على مكتسبات هذا التاريخ وتوقفت عجلة التطور فيها منذ عقود فأصبحت شعوباً في غالبيتها منفصلة عن واقع العالم اليوم ولم تتسلح بالعلوم الحديثة واقتصاد دولها يعاني من الركود والترهل ودورهم فيه ضعيف وتتوسع كثيراً الفجوات بالمحتمع لديهم حيث تزداد شريحة محدودي الدخل نتيجة لافتقار دولهم للتنمية الاقتصادية الصحيحة والملائمة لإمكانياتهم بالإضافة لفقدانهم لسلاح التعليم بمعطيات هذا الزمن وغياب الفرص أمام المتعلمين لكي يؤسسوا أعمالاً نوعية مواكبة لعصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بينما تجد أغلب حديثهم قائماً على إنجازات حضارات قديمة يعتقدون أنهم امتداداً لها بينما انقطعت هذه الصلة قبل قرون بالإضافة لمحاولة التقليل من نجاحات الآخرين ويساهم بهذه الثقافة طبقة المثقفين لديهم بشكل كبير فهم من يعزز لهم النظرة بأن ما يمتلكونه من إرث قديم أهم بكثير من ما تمتلكه شعوب دول متقدمة بالعالم متناسين أنهم أصبحوا دولاً معطلة إمكانياتها في مجالات يمكن لهم التفوق فيها بسهولة حيث تتعطل العقول في محطة من الماضي السحيق فلم يبقَ لديهم إلا المزايدات على الآخرين بالقضايا المهمة والتوجه للخطب والطرح الشعبوي والأفكار السطحية وضعف الثقافة والمعرفة بما يدور في العالم اليوم.
دول العالم أصبحت منقسمة بين من وضعت قدمها في القرن الواحد والعشرين ودول مازالت في قرون سابقة ولذلك ظهرت الفوارق بين الشعوب من حيث العلوم والنظرة للمستقبل وتأسيس المشاريع والأفكار التي تحولت إلى شركات بقيم مليارية وباتت الفجوات كبيرة في التفكير بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والتعامل مع التحديات فشعوب الدول المتقدمة لديها أساليب وحلول وسلوكيات سهلت عليها التأقلم مع التسارع الكبير في التطور التقني الذي أصبح ميدان التنافس الأول بينما بقيت شعوب الدول المتأخرة تنموياً تقف على عتبات الماضي ولا تعترف بحاجتها لتغيير أفكارها البالونية والاتجاه للعلوم الحديثة واللحاق والتنافس مع الشعرب التي سبقتهم بشتى المجالات.