عماد عسيري
صدق الفيلسوف اليوناني أفلاطون حين قال «البداية أهم جزء في العمل»، وهو ما نراه يتحقق يوماً بعد يوم، على أرض الواقع، مذ بدأ العمل على ترجمة أفكارنا وطموحاتنا إلى خطط وإستراتيجيات فتحت آفاقاً أرحب أمام كل من يمتلك الإمكانات لإحداث التغيير الإيجابي على المستويات كافة.
وحديثي اليوم عن «منصة اعتماد» التي تقدم العديد من الخدمات لمختلف الجهات الحكومية بهدف تسهيل الإجراءات التشغيلية وتوثيق التعاملات المالية، وتعزيز الشراكة بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص والأفراد لتحقيق مستهدفات المشاريع التنموية في المملكة، تمكيناً للتحول الرقمي لكل الخدمات ورفع الشفافية والكفاءة.
و»اعتماد» فكرة ناجحة بكل المقاييس لفتح أفق المنافسة الشريفة بين الجميع، ومنع الاحتكار، وإتاحة الفرصة لمشاركة الشركات بالمناقصات الحكومية مهما كان حجمها.
والحقيقة أن «اعتماد» ساهمت في انتظام الصرف للمشاريع الحكومية، وأتاحت مشاركة المنشآت الصغيرة والمتوسطة في التنمية الاقتصادية، وزيادة الشفافية في المنافسات الحكومية، وهو ما نقرأه في إحصاءاتها المنشورة بموقع المنصة التي أطلقت منذ يناير 2018، إذ تمخضت عن إبرام 570.5 ألف عقد، و1.3 مليون أمر دفع بقيمة إجمالية بلغت 1.6 تريليون ريال، واستقطاب 50 ألف مستخدم (جهة حكومية)، جميعها تتنافس على 131 ألف منافسة مطروحة حتى الآن.
ومما لا يدع مجالاً للشك، أن أي مطلع على ملف رؤية المملكة 2030 سيرى مساراً راسخاً للاقتصاد في كل صفحاتها، سواء من الناحية الإجرائية أو من جهة الدعم والتخصيص وصولاً إلى دولة اقتصادية عظمى تتكئ على خطط إستراتيجية واضحة المعالم يلحظها كل اقتصادي وقارئ مهتم بمتابعة ملف الرؤية الذي يهدف إلى أن تصبح المملكة من أقوى اقتصادات العالم، بتوظيف كل مواردها ومقدراتها، وجعل بيئتها أحد أفضل بيئات الاستقطاب حول العالم، من خلال استحداث الإجراءات، وتغيير طبيعة المدن، وبناء مدن جديدة ذكية، ترتكز على التحول الرقمي في كل مراحلها.
ويحظى التحول الرقمي في الملف الاقتصادي لرؤية 2030، بدعم حكومي هائل، سواء في مسار الإجراءات التجارية للمؤسسات الصغيرة أو المتوسطة والكبيرة، أو إطلاق صناديق الدعم التي تضمن صلابة البنية التحتية لسوق متين قابل للتطوير والاستدامة، ويؤمن دائرة واسعة لمنافسة الشركات، ما يمنح السوق السعودي ثباتًا لا تزعزعه الأزمات.. ومنا هنا جاءت فكرة إطلاق «منصة اعتماد» التابعة لوزارة المالية، والتي تعنى بالمنافسات الحكومية، إضافة إلى منصة «فرصة» الخاصة بالقطاع الخاص.
وللحق، فـ»المالية» من الوزارات المهتمة دائمًا بالتحول الرقمي وتطوير الجهات الحكومية ورفع جودة الإجراءات لضمان جودة المخرجات.
وبالحديث عن «اعتماد»، لا يخفى على ذي لبّ أن المنصة تحظى بنصيب الأسد من الاهتمام والمتابعة، لدعمها مشاريع كبيرة ومتعددة، وضخ كل المناقصات الخاصة بكل الدوائر الحكومية، إذ أصبح نشر المناقصات عبر المنصة إلزاميًا، ومن خلالها أيضًا تتم ترسية المناقصات بإشراف مباشر من وزارة المالية، ما يحول دون احتكار الشركات الكبرى للمشاريع، والجميع يعلم أن الاحتكار بكل أنواعه هو أداة مدمرة للسوق، فلا يجوز وسط كل هذه الإنجازات أن يظل النمو حكراً على جهات بعينها، ما دفع منصة اعتماد لفتح مجال الأطروحات التنافسية المتزنة أمام الجميع، وإتاحة فرص جيدة لإنشاء هيئة المنافسة السعودية، فباتت منصة رقمية بامتياز، إذ أكملت أتمتة إجراءاتها بالكامل ما يتيح الاستفادة منها عبر الويب سايت، إضافة لإيجابات عدة يطول الحديث عنها، لكنها ليست موضوعنا اليوم.
ورغم كل إيجابات «اعتماد»، إلا أنني، ومن خلال الوقوف على بعض التجارب في المنصة، أحتاج إلى إيصال صوتي للمشرفين والقائمين عليها:
«منصة اعتماد» فكرة رائعة وخلاقة، وكلنا أمل أن تحقق المستهدفات وبالجودة المطلوبة، وبما يواكب نهضة المملكة والغايات المنتظرة، لاسيما أن الجميع يتابع طرح مئات المناقصات اليومية، ولكن هناك بعض الإجراءات بحاجة إلى تدخل الجهات المشرفة على المنصة لرفع جودة التعاملات.
فعلى سبيل المثال، لا الحصر، لوحظ غياب «التصنيف»، وهو «معضلة حقيقية»، رغم أنه في الوقت ذاته «بوابة أمل».
نعم «بوابة أمل».. لمن هم دون التصنيف، ويأملون في الوصول بشركاتهم إلى مشاريع التصنيف.
ولكن أن يكون غياب التصنيف «معضلة حقيقية»، فهذا يحتاج إلى بعض التفاصيل..
يا سادة.. المنافسة المفتوحة تصبح «معضلة» لأنها تفتح المجال للمندفعين بإقحام كياناتهم البسيطة في مشاريع كبيرة، وهنا، ولقلة الخبرة، يضعون أسعاراً لا مدروسة ولا منطقية، ما ينتج عنه تعثر تنفيذ المشاريع.
ومن التجارب التي يتناقلها البعض أيضًا: هناك كيانات كبيرة تمتلك خبرات طويلة، تقبل دخول المناقصات بهامش ربح بسيط، لكنها تفاجأ بتقديم كيانات صغيرة أسعاراً لا تمثل سوى 20 % من التكلفة الفعلية للمشروع، وهو ما لاحظه عدد من المنتمين إلى قطاع الأعمال التجاري، مؤكدين أن هذا السعر لا يمكن أن يقدمه سوى كيان لم يخض تجربة الأعمال، وبالتالي سيتعذر عليه التنفيذ بالشكل المطلوب، ما يمثل عقبة كبيرة أمام المناقصات التي تطرحها المنصة وتترك مجال المشاركة فيها مفتوحاً للجميع.
ورغم تأييدنا بالطبع لعدم تغليب باب الاحتكار، غير أننا نأمل من أصحاب القرار الوقوف على تجارب الشركات الكبرى، ما يتوجب مرونة التصنيف.
بمعنى آخر: نعلم أن الشركات الكبرى تصنف مشاريعها تصنيف (أ) وهناك مقاولون فئة (أ) وبالتالي تطرح المنافسة ضمن معايير خاصة، يمكن للمقاول من خلالها دخول المنافسة بأعلى المعايير، وبالطبع لا نتحدث هنا عن المعايير المالية أو حجم الكيانات المنافسة، ولكننا نتحدث عن ضمان التنفيذ بأعلى المعايير الفنية، كأن تكون للجهة المتقدمة للمناقصة إنجازات وتجارب قائمة بالفعل في أنشطة مماثلة خلال وقت طرح المناقصة.
وحتى تتطور مثل هذه المنصات المهمة، وتؤتي ثمارها المأمولة، نرجو من القائمين عليها العمل على رفع جودة الإجراء، ما يضمن ارتقاء المخرجات، وهناك الكثير من التجارب التي تدعم وترسخ وتؤسس لهذا التوجه.
الآن، نحتاج إلى النظر والتفريق في تصنيف الأعمال، فهناك أعمال تحتاج إلى مهارات خاصة، مثل مناقصات الكتابة أو الكتابة الإبداعية، وغيرها من الأعمال الفنية، وعلى الطرف الآخر هناك مناقصات خاصة بتوريد ماكينة ما بمواصفات معينة، وهي مناقصات واضحة تعتمد على المفاضلة المالية أكثر من المفاضلة الخبراتية.
وبالنسبة للأعمال التي تقتضي المفاضلة وفق معايير أعلى (المعيار الفني)، فيفترض على اللجان المناطة بترسيتها أن تتمتع بخبرات المعيار الأعلى للمفاضلة (المعايير الفنية)، إذ لا يمكن أن تثمر هذه الأعمال إلا إذا أُسندت إلى أصحاب الخبرة والتميز في السوق، ولا مانع من فتح المجال أمام الكيانات الجديدة بـ»حدود وشروط معينة» لاختيار الجهة المنفذة، دون إقصاء الحالمين بتطوير كياناتهم، ودون أيضاً أن تصبح أحلامهم عقبة أمام الاستفادة من المفاضلة، حتى لا ينتهي الأمر بتعثر التنفيذ لمجرد إسناد المشروع لجهة تفتقد الخبرة، ما نضطر معه لإعادة طرح المناقصات مرة أخرى، لإسنادها لذوي الخبرات المطلوبة.
وأمام هذه الطروحات.. تظهر أسئلة تحتاج إلى إجابات شافية:
* «اعتماد».. هل هي منصة ضابطة لإجراءات التقديم فحسب، أم لا زالت في طور الإنشاء والتحديث، وصولاً إلى الاحترافية المطلوبة لتصنيف الأعمال والمقاولين؟
* وهل سنرى منصة اعتماد في المستقبل القريب تنشر تقييماً للجهات التي أُنيط بها تنفيذ الأعمال، بحيث يتسنى لبقية الجهات النظر في إمكانية المشاركة من عدمها، استناداً إلى التجارب السابقة؟
* وهل تحقق منصة اعتماد الأهداف المرجوة منها، بحيث تسند المشروعات للكيانات ذات الخبرات اللازمة، أم أنها تعتمد على شفافية الطرح بغض النظر عن النتائج؟
** وأخيرًا.. جميعنا ننتظر أن يعي مشرفو منصة اعتماد وكل المنصات المنبثقة عن رؤية 2030، أن تجويد الإجراءات والمخرجات واستقطاب التجارب العالمية ومحاكاتها واجب حتمي تفرضه الإنجازات والتغيرات الجوهرية التي تشهدها المملكة على الأصعدة كافة.. فهل نفعل؟!