اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
المواجهة الأولى:
حديثي اليوم موجهٌ بشكل أساسي إلى أولئك القومجية الثورجية الإخونجية المرتزقة، الذين يقدحون في جهد السعودية في الدفاع عن فلسطين، والمنافحة عن شعبها، ومناصرة قضيتها العادلة؛ أسوق إليكم في ما يلي بالدليل القاطع، الذي لا يقبل أي شك مفتعل أو مزايدة رخيصة مدفوعة الثمن، نزراً يسيراً من جهد السعودية الذي يسنده التوثيق، في كل عهد من عهود قادتها الأبطال الأفذاذ، الرجال الشجعان، الذين تحمّلوا مسؤوليتهم عن الأُمّة بكل كفاءة وجدارة واقتدار، حتى قبل أن تبصر أعين أولئك المرتزقة النور؛ بداية من عهد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، وحتى هذا العهد الزاهر الميمون بقيادة البطل الفذ الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده القوي بالله الأمين، أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء.. أقول نزراً يسيراً لأن إحصاء جهد السعودية من أجل الدفاع عن قضية فلسطين، أمر يطول شرحه وتوضيحه، ويتطلب مزيداً من الجهد والوقت والبحث، هذا إن لم يكن مستحيلاً.
وعلى كل حال، لنبدأ اليوم بتوضيح دور السعودية في تبني قضية فلسطين في عهد المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، الذي لم يبخل على دعم فلسطين بالفكر والرجال والسلاح والمال، ليس هذا فحسب، بل لم يقدِّم زعيم عربي قي عهده مثلما قدَّم هو للمنافحة عن فلسطين، بل قل إن ما قدَّمه الملك عبد العزيز لمناصرة فلسطين، يفوق ما قدَّمه سائر الزعماء العرب في عهده مجتمعين، وهكذا هو الحال اليوم. ولهذا عندما يؤكد قادة السعودية على مر التاريخ أن قضية فلسطين هي قضيتنا الأولى، فالأمر ليس نابعاً من فراغ؛ إذ إنه يرتكز إلى مبدأ جوهري في رسالة الدولة السعودية، رائدة العرب والمسلمين.. أقول، أوضح اليوم جهد السعودية تجاه قضية فلسطين في عهد المؤسس الملك عبد العزيز، عندما كانت فلسطين تواجه أخطر محنة تهدد وجودها وتستهدف حياة أهلها وممتلكاتهم، على أن أوافيكم في كل مرة إن شاء الله في المقالات القادمة، بالدعم السعودي لفلسطين في عهود أبنائه القادة الكرام البررة تباعاً.
فقطعاً لا يوجد اليوم عاقل واحد يجادل في ما كان للملك عبد العزيز آل سعود من مواقف القائد العربي المسلم، الصحيح العروبة، الصادق الإيمان، إذ قدَّم لفلسطين دعماً سخياً بالفكر والرجال والسلاح والمال، ومنحها كثيراً من وقته الثمين، ووظَّف كل قدراته ومهاراته لاستغلال صداقته المتينة مع بريطانيا، ثم من بعدها أمريكا، ليبعد شبح الخطر الذي كان يهدد وجودها قدر الإمكان. ولأنه لم يكن من أصحاب الدعايات الجوفاء الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، لم يكن يأذن بنشر جهده لخدمة فلسطين، لأنه يرى فيه واجباً حتمياً مؤكداً، تفرضه وحدة العقيدة والدم؛ وليس منَّة أو دعاية رخيصة يهدف بها لتحقيق غاية ما؛ كما يفعل زعماء دول القومجية الثورجية الإخونجية المرتزقة.
يحدثنا التاريخ أن أول مواجهة بين الملك عبد العزيز وبين بريطانيا في ما يتعلق بقضية فلسطين، كانت في اجتماعات وادي العقيق (1345/1926) حيث عرض البريطانيون مشروع (اتفاقية جدة) منتهزين فرصة مطالبة عبد العزيز بإلغاء معاهدة (1915) التي تم فرضها على نجد، للضغط على الملك عبد العزيز للاعتراف بمركز خاص لبريطانيا في فلسطين؛ غير أنه رفض بشدة، وأصر على موقفه الثابت الراسخ الذي لا يقبل مساومة من أي نوع في حق فلسطين، حتى إن كان على حساب بلاده، فاضطرت بريطانيا للتنازل عن رغبتها كرهاً.
وصحيح، لم يكن ثمَّة ما يمنع عبد العزيز من انتهاز تلك الفرصة الثمينة للتخلص من عبء تلك المعاهدة المجحفة، لكنه رجل كبير، صاحب مبادئ، له رسالة في الحياة واضحة محددة، وليس انتهازياً طالب سلطة وأُبهة حكم؛ وقد استشهدت على هذا كثيراً في مقالاتي السابقة بمقولته الشهيرة: (نحن آل سعود، أصحاب رسالة، ولسنا طلاب سلطة) كما أكد هذا كل من عرفه وكتب عنه بكل تجرد ونكران ذات، على النقيض تماماً من زعماء دول أولئك المرتزقة، الذين تركوا جزءً من أرضهم يرزح تحت نير الاحتلال منذ عقود حتى اليوم، فيما وافق آخرون على تقسيم البلاد مقابل بقائهم في السلطة.. وما أرخص الوطن في وجدان كل من يقايض ذرة من ترابه بكرسي زائل مهما طال الزمن، ودونكم الشواهد.
فمثلاً عندما ألقى اليهود قنابل على المصلين في المسجد الأقصى أثناء صلاة الجمعة (1348/1929) سارع الملك عبد العزيز في الحال بالكتابة إلى الملك جورج السادس ملك بريطانيا، معبراً عن غضبه ورفضه القاطع وشعبه لمثل هذا السلوك البربري الهمجي، الذي ينتهك حرمة أولى القبلتين في اعتداء سافر على حرية العبادة التي تتشدق بها بريطانيا نفسها؛ مطالباً بمعاقبة المجرمين، محذراً من تكرار مثل تلك الممارسات الشنيعة لما يمكن أن تجره من أخطار جسيمة، مهدداً بريطانيا في الوقت نفسه بأن سياستها تجاه فلسطين تتنافى مع ما تنشده من صداقة مع العرب والمسلمين، فإن كانت فعلاً جادة وراغبة في استمرار تلك الصداقة وترسيخها، عليها آنئذٍ تصحيح سلوكها تجاه فلسطين.
وعندما حمي وطيس ثورة فلسطين (1355/1936) تواصل الملك عبد العزيز مع القادة العرب من جهة، ومع البريطانيين من جهة أخرى؛ فتمخضت مساعيه تلك عن نقل قضية فلسطين من قضية بينها وبين بريطانيا واليهود، لتصبح قضية عربية عامة؛ فكان الملك عبد العزيز أول زعيم يجعل القضية الفلسطينية قضية رأي عربي عام، وليست قضية فلسطين وحدها. كما وجَّه الجهات المعنية بتحويل الدعم المادي للأشقاء في فلسطين، إضافة لتوجيه وزارتي الخارجية والمالية بإرسال مساعدات من المؤن، حاثاً شعبه على مواصلة دعم أشقائه في فلسطين بكل سخاء. وجدير بالذكر أن تلك السُّنة التي سنَّها الملك عبد العزيز، ما تزال حيَّة حتى اليوم؛ فالسعودية هي أكبر الدول التي تدعم فلسطين بسخاء منقطع النظير، وكثيراً ما رأينا حتى الفتيات الصغيرات، ينزعن عنهن ما لديهن من حلي بسيطة ويضعنها في صناديق التبرعات لدعم فلسطين، في مشهد تقشعر له الأبدان من شدَّة صدقه وإخلاصه ووفائه؛ فضلاً عمَّا يضطلع به قادة السعودية من دعم سياسي لفلسطين في المحافل الدولية، مستغلين ما تتمتع به بلادهم من مصداقية واحترام في العالم أجمع، خاصة لدى الدول التي تسمي نفسها عظمى وتعقد قضية فلسطين يوماً بعد يوم بسبب ما تقدمه لدولة الاحتلال من شيك على بياض في تعاملها تجاه فلسطين وأهلها.
ومن جهة أخرى، كانت مساعي الملك عبد العزيز حثيثة مع البريطانيين لحملهم على الإفراج عن المحكوم عليهم، ووقف هجرة اليهود إلى فلسطين، ومناشدة ملوك العرب آنئذٍ وأمرائهم للعمل يداً واحدة لإيجاد حل عادل للمشكلة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه كان يحث الأشقاء الفلسطينيين لنبذ التحزب والتشرذم ويشجعهم على العمل صفاً واحداً، على قلب رجل واحد، لمجابهة الخطر الوشيك الذي يهدد وجودهم كلهم واستقلال دولتهم.. أجل، فقد كان الملك عبد العزيز يرى الأمور بعين القائد الحكيم المتمرس الذي يقرأ ما بين السطور جيداً ، ويستشرف المستقبل وفق معطيات الحاضر. ولهذا كان أحرص ما يكون على حقن الدماء ووحدة الصف؛ فيما كان نظر الآخرين لا يتعدى تحت أقدامهم، دون أدنى تفكير في مصير شعب بأكمله.
عبد العزيز يرفض قرار التقسيم:
وعندما أرسلت اللجنة العربية العليا في القدس وفدها لمقابلة الملك عبد العزيز (1355/1937) الذي تألف من عوني عبد الهادي، معين الماضي، عزَّت دروزة والشيخ كامل القصاب، لتنويره بالموقف في فلسطين، حذَّرهم الملك عبد العزيز من التمادي في مقاطعة اللجنة الملكية البريطانية التي تم تكليفها بموضوع فلسطين، وحثهم على التعاون معها لتحقيق المطالب الفلسطينية العادلة، مؤكداً لهم: (... نحب أن تكونوا على ثقة بأننا لا نألو جهداً في سبيل مساعدتكم لإصلاح الحال، بقدر إمكاننا، وإنَّا لنرجو من الله أن يوفقنا جميعاً لما فيه الخير للإسلام والعرب). وقد أثمر جهده هذا عن استجابة اللجنة العربية العليا في القدس، فعادت للتواصل مع اللجنة الملكية البريطانية للعمل معاً يداً واحدة، وتوحيد الجهود البريطانية التي وعدت بمعالجة القضية الفلسطينية على ضوء وجهة النظر العربية، وحسن معاملة الفلسطينيين الثائرين. وعندما أصدرت اللجنة البريطانية الملكية قراراً يقضي بتقسيم فلسطين في الخامس والعشرين من شهر جمادى الثانية 1356(1937)، لم يتوانَ الملك عبد العزيز لحظة في رفض القرار؛ بل وجَّه نائبه العام بتشكيل لجنة في كل إقليم من بلاده لإسماع العالم صوت السعودية الذي يرفض قرار التقسيم هذا، وفي الوقت نفسه لدعم الحركة الوطنية في فلسطين، ومساعدتها في التصدي لخطر تقسيم بلادها.
ويحذر الوزير ريدر بولارد:
وأثناء لقائه وزير بريطانيا المفوض بجدة ريدر بولارد في الثاني عشر من شوال 1356 (الخامس عشر من ديسمبر 1937)، حذَّره الملك عبد العزيز من مغامرة بريطانيا بأي عمل مهما كان، يضر بعرب فلسطين، مؤكداً له أنه لا يوجد عربي واحد صادق العروبة، يمكنه أن يوافق على قرار التقسيم. وعند عودة الوزير ريدر لمقابلة الملك عبد العزيز للمرة الثانية في الثالث من ذي القعدة 1356 (الرابع من يناير 1938)، حذَّره الملك عبد العزيز من أن سلوك بريطانيا هذا تجاه فلسطين، يهدد مكانتها في العالمين العربي والإسلامي؛ مؤكداً له عدم استعداده للتنازل عن وفائه لدينه وعروبته وشرفه الذي يتطلب منه كثيراً من العمل والجهد والصدق والإخلاص تجاه العرب والمسلمين حيثما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها، التزاماً بمبادئه ورسالة بلاده.
هذا وقد تبادل الملك عبد العزيز مع المسؤولين البريطانيين رسائل عديدة، أكد لهم فيها ضرورة العمل بشكل جاد على وقف هجرة اليهود إلى فلسطين، وسن قوانين تحافظ على أملاك البسطاء، وتمنع بيع أراضي الفلسطينيين لليهود، وإخلاء سبيل المحبوسين من الفلسطينيين بسبب الاضطرابات؛ محذِّراً البريطانيين من التلاعب وعدم الالتزام بسياسة واضحة تجاه قضية فلسطين، وما يمكن أن يفضي له مثل هذا السلوك المشين، ليس في فلسطين وحدها، بل في العالمين العربي والإسلامي على حد سواء، وما يمكن أن يؤدي له هذا أيضاً من خطر فتور صداقة بريطانيا مع تلك الدول؛ إذ لا أحد يقبل مطلقاً أن ينتزع منه وطنه ليحتله آخرون مهما كانوا، مشيراً إلى تلك المسؤولية الأدبية العظمى التي تترتب على عاتقه نتيجة إعطاء بريطانيا وعودها للعرب بالاستقلال أساساً باسم الحجاز الذي كان يشكل وقتئذٍ إقليماً مهماً من مملكته، مؤكداً لهم أن قضية فلسطين تعد لدى سائر العرب قضية موت أو حياة؛ محذِّراً أنه إذا جد الجد، فلن تحول صداقة بريطانيا له أو أي شيء آخر في الدنيا دون مناصرته للحق العربي.
وعليه طالب الملك عبد العزيز بريطانيا بإلغاء قرار التقسيم، وإلغاء مشروع تبادل السكان الذي يعزل كل من العرب واليهود في منطقة، معتبراً إياه إجلاءً للعرب من مواقعهم الأصلية، ليس له سابقة في التاريخ، كما طالب بالالتزام بضمانات كافية لحماية الأماكن المقدسة وتمكين الجميع من الوصول إليها، وتحقيق العدالة، واتخاذ تدابير فعَّالة تحول دون تجريد العرب من أراضيهم؛ مذكراً بريطانيا بما قد يكون غائباً عنها من أن عداوة العرب والمسلمين لليهود ضرورة دينية ينبغي على كل مسلم صحيح الاعتقاد أن يؤمن بها ويعمل بمقتضاها، بخلاف عداوة العرب والمسلمين للنصارى التي هي في المقام الأول خلاف سياسي، يمكن الوصول فيه إلى نقاط تفاهم مشتركة بين الجانبين، مشيراً إلى أن تقسيم فلسطين وتوطين اليهود فيها لن يحل مشكلة يهود العالم الذين لن تسعهم فلسطين كلها حتى إن تركها العرب لهم عن طيب خاطر، مذكراً في الوقت نفسه أن فلسطين ستتحول إلى بؤرة للصراع والقلاقل والفتن، تظل تهدد الأمن والسلام في المنطقة إلى الأبد، كأنه كان يصف ما يحدث اليوم بالضبط.. ولعمري، تلك هي رؤية القادة الكبار الذين لديهم قدرة فائقة على استشراف المستقبل.
ثم يكتب الملك عبد العزيز للمسؤولين البريطانيين بصراحته المعهودة: (... إن قلت لكم إنه يوجد في جسمي ذرة واحدة فقط لا تدعوني لقتال اليهود، فإني غير صادق، ولو أن المقصود اليهود وحدهم، فإني أفضل أن تفنى الأموال والأولاد والذراري، ولا يتأسس ملك لليهود في فلسطين؛ فتأسيس دولة لليهود في فلسطين لم يكن منافياً لمصالح العرب فيها ومهدداً بمحوهم وحدهم فحسب، بل كذلك الحال في سائر البلاد العربية).
رسالة تاريخية:
وبعدما تأكدت لعبد العزيز مراوغة بريطانيا، نفض يده منها غير آسفٍ، ومن ثم اتجه لمخاطبة الدولة الأقوى (أمريكا)، فأرسل في السابع من شوال 1357 (التاسع والعشرين من نوفمبر 1938)، أول رسائله إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، مشيراً إلى حق الفلسطينيين في وطنهم، وإلى الدعاية اليهودية التي أقنعت الأمريكيين بأن مناصرة اليهود لسحق العرب في فلسطين تعد عملاً إنسانياً، وهو الأمر نفسه الذي ما زال حتى اليوم السمة الغالبة لدى السواد الأعظم من الأمريكيين؛ مفنداً ادعاءات اليهود بامتلاك حق تاريخي في فلسطين، وضرورة عدم حل مشكلة اليهود على حساب فلسطين التي آوى إليها منهم أكثر مما تسمح به رقعتها المحدودة الضيقة. مركزاً على أهمية التفريق بين قضية اليهود وبين قضية الصهيونية السياسية، وعدم حق بريطانيا في وعد بلفور لليهود، مستنداً إلى تصريح مالكوم ماكدونالد، وزير المستعمرات البريطانية لمخالفته للحق والعدل، ومبدأ تقرير المصير الذي تتشدق به الدول التي تزعم أنها عظمى، تناصر حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية والعدالة والحرية، موضحاً له عروبة فلسطين عرفاً ولساناً وموقعاً وثقافة.
على صعيد آخر، وصفت صحف العالم رسالة عبد العزيز تلك إلى روزفلت، بأنها رسالة تاريخية من ملك عربي شرح فيها قضية فلسطين كما لم يشرحها أحد قبله، وأشار فيها إلى خذلان الحلفاء للعرب، فيما يتعلق بوعدهم بدعمهم لنيل استقلالهم.. وهكذا تم تبادل الرسائل بين الملك عبد العزيز وبين روزفلت، وكان الملك عبد العزيز في كل مرة يشرح قضية فلسطين، مؤكداً حق الفلسطينيين التاريخي والطبيعي في أرضهم، لاسيَّما بعد لقاء الملك به (1945)، مما حدا بالرئيس روزفلت للاعتراف أمام الكونغرس: (لقد وعيت عن مسألة الجزيرة العربية، تلك المشكلة بحذافيرها، مشكلة المسلمين ومشكلة اليهود، وعيت عنها في حديث دام خمس دقائق مع ابن سعود، أكثر مما كنت أستطيع معرفته بتبادل ثلاثين أو أربعين رسالة). كما ذكر روزفلت أيضاً في مؤتمر صحفي عقد عقب لقائه الملك عبد العزيز: (ما عرفته عن فلسطين من ابن سعود في خمس دقائق، أكثر مما عرفته عنها طيلة حياتي). وبالطبع يؤكد هذا اهتمام الملك عبد العزيز بقضية فلسطين، وحرصه على إقناع القوى العظمى بحق الفلسطينيين في بلادهم، مرة مهدداً بفتور الصداقة، والفتن التي يمكن أن تعم المنطقة، وأخرى مرغِّباً بما يمكن أن تجنيه تلك الدول العظمى، إن هي صدقت في وفائها للعرب وحماية استقلالهم، موظفاً ذكاءه ودهاءه وحجته وقوة منطقه ومعرفته بالتاريخ.
فقد جاء مثلاً في رسالة مطولة بعث بها الملك عبد العزيز للرئيس الأمريكي روزفلت في الخامس والعشرين من شهر ربيع الثاني 1362 (الثلاثين من أكتوبر 1943): (... إذا سلمت فلسطين كلها لليهود، فإن ذلك لا يمكن أن يحل المشكلة اليهودية، ولا يمكن أن يؤمن أرضاً كافية يسكنها اليهود، فلماذا يراد القيام بهذا الظلم الفرد الفذ في تاريخ البشرية... إن أرض العالم لن تضيق على اليهود... فإذا تحمّل كل بلد من بلدان الحلفاء الآن في الوقت الحاضر، عشر ما تحمّلته فلسطين، أمكن حل قضية اليهود. وأمكن حل قضية إسكانهم. وكل ما نرجوه في هذا الموقف الحاضر، هو مساعدة فخامتكم لإيقاف سيل هذه الهجرة، إيقافاً تاماً بإيجاد أماكن لليهود في غير فلسطين يأوون إليها، ومنع بيع الأراضي لليهود في فلسطين منعاً باتاً).
على صعيد آخر، تم نشر مقال للملك عبد العزيز في مجلة (لايف) الأمريكية ذكر كاتب المقال: (سألت الملك عبد العزيز عن رأيه في قضية فلسطين، فكان مما أجاب به: لا أعلم أن لليهود أمراً يبرر مطالبتهم بفلسطين، لأن فلسطين كانت من قبل البعثة المحمدية للعرب... إذا كان اليهود مضطرين إلى محل يسكنونه، فبلاد أوروبا وأمريكا وغيرها من البلدان، أوسع وأخصب من هذه البلاد، وأتم لمصالحهم، وهذا هو الإنصاف).
ويرفض طلب أمريكا بمقابلة وايزمان:
وعندما أرسل روزفلت الكولونيل هارولد هوبكنز، رفيقه الذي لا يفارقه أبداً، إلى الملك عبد العزيز لمعرفة رأيه حول إمكانية استقبال حاييم وايزمان، زعيم الصهيونية العالمية، للتباحث معه لإيجاد حل لمشكلة فلسطين يرضي كل من اليهود والعرب على السواء، أو اجتماع مندوب للملك مع وايزمان أو أي شخص آخر تعينه الوكالة الدولية للغرض نفسه، كان رد الملك عبد العزيز مباشراً صريحاً حاسماً كعادته دائماً: (... لا يخفى على الرئيس ما بيننا وبين اليهود من عداوة سابقة ولاحقة، وهي معلومة ومذكورة في كتبنا التي بين أيدينا، ومتأصلة من أول الزمان، فمن هذا يظهر جلياً أننا لا نأمن غدر اليهود، ولا يمكننا البحث معهم أو الوثوق بوعودهم، أولاً: لأننا نعرف نواياهم نحو العرب والمسلمين، وثانياً: لأننا لم نتصل بالعرب لنعرف رأيهم... أما الشخص الذي هو الدكتور وايزمان، فهذا الشخص بيني وبينه عداوة خاصة. وذلك لما قام به نحو شخصي من جرأة مجرمة بتوجيهه إليَّ، من دون جميع العرب والمسلمين، تكليفاً دنيئاً لأكون خائناً لديني وبلادي، الأمر الذي يزيد البغض إليه وإلى من ينتسب إليه...).
وفي شهادته عن موقف الملك عبد العزيز الثابت الراسخ تجاه القضية الفلسطينية، كتب الكولونيل وليام إدي الذي كان وزيراً مفوضاً لأمريكا في السعودية، ومعلوم أنه تولى الترجمة في لقاء القمة الذي جمع الملك عبد العزيز بروزفلت: (... قال عبد العزيز: على أمريكا وبريطانيا أن تختارا بين أرض عربية يسودها السلام والهدوء، وبين أرض يهودية غارقة بالدم... شرف لي أن أموت في ساحات القتال دفاعاً عن فلسطين في معركتها مع اليهود... لن يقبل العرب أبداً بقيام دولة يهودية في بلادهم). كأن عبد العزيز كان يصف بالضبط هذه الأيام التي نعيشها الآن، وقد غرقت دولة الاحتلال في الدم حتى الركب.
وحين طلب روزفلت عبر وزيره وليام إدي هذا، معرفة رأي الملك عبد العزيز في الاجتماع معه في البحيرات المرة عند عودته من مؤتمر يالطة (1364/1945)، أجاب الملك عبد العزيز في الحال بالقبول دونما تردد و لو للحظة واحدة قائلاً: (... هذه مصلحة ننتهزها لمساعدة فلسطين وسوريا ولبنان...). وعندما سأل روزفلت الملك عبد العزيز في ذلك اللقاء التاريخي: (... وهؤلاء اليهود، ما ذا نصنع بهم؟). أجابه عبد العزيز في الحال بصراحته المعهودة: (من أين أتوا؟ يعود كلٌّ إلى بلده، لماذا لا يعود اليهود إلى هذه الأماكن التي شردوا منها؟ أعطوهم وأحفادهم أحسن بيت الألمان الذين اضطهدوهم وأراضيهم).
الفرس يعيدون اليهود إلى فلسطين:
وفي لقائه بتشرشل رئيس حكومة بريطانيا، شرح له الملك عبد العزيز مشكلة فلسطين كما لم يشرحها علماء التاريخ والآثار والأنثربولوجيا منذ 3500 ق م، مفنداً ادعاءات اليهود التاريخية والطبيعية بحق لهم في فلسطين، مؤكداً حق العرب الصريح الثابت الراسخ فيها. وأود هنا فقط لفت انتباه أولئك الذين يتغطون بإيران من الفلسطينيين وغيرهم من العرب الآخرين، أن عبد العزيز أوضح أثناء شرحه لتشرشل تاريخ فلسطين، أن الفرس هم الذين أعادوا اليهود إليها بأمر ملكهم قورش، بعد أن أجلاهم عنها نبوخذ نصر، ملك بابل الذي قضى على مملكة يهوذا قبل أن يحتلها العرب عام 637م، ومن ثم ليحكموها لمدة 880 سنة متواصلة.
وفي رسائله إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان، كان عبد العزيز واضحاً ومحدداً كعادته دائماً، يرى في الخطر الصهيوني على فلسطين خطراً على بلاده أيضاً، لم يكن ليفرق بين بلاده وبين فلسطين: (... إن برنامج الصهيونية، والاستعدادات التي للصهيونية في فلسطين، لا تعتبرها الحكومة العربية السعودية موجهة لفلسطين وحدها، بل هي في نفس الوقت تعتبر خطراً مهدداً لأمن مملكتنا... بل هي مهددة للأمن في الشرق الأوسط). فكيف يساعد قائد أيها المرتزقة، قوىً غاشمة يرى فيها مهدداً خطيراً لأمن بلاده وإخوته العرب، ولأمن المنطقة بأسرها؟!
الموت ولا قبول الهجرة:
ثم يؤكد عبد العزيز للجنة التحقيق البريطانية - الأمريكية موقفه من اليهود على ضوء ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى لأنه رجل صاحب مبدأ، شديد الإيمان بربه: اليهود أعداؤنا في كل مكان... إن قضية الصهيونية في فلسطين تهم العرب والمسلمين بصورة عامة، وتهمني بصورة خاصة، وإن العداوة التي بين اليهود والمسلمين ليست وليدة عهد جديد، وإنما هي نتيجة عداء قديم يرجع إلى آلاف السنين، وقد ذكرها الله في كتابه الكريم، حيث قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}. ثم يستطرد عبد العزيز مخاطباً رئيس اللجنة: (تسألون عن رأيي في بقاء اليهود في فلسطين؟ نحن لا نعرف اليهود، ولا هم يعرفوننا، اليهود قوتهم بالدينار، ونحن حجتنا بحقنا في فلسطين حجة شرعية.. بلادنا أخذناها من الرومان بالسيف، قاتلنا دونها وملكناها بعد أن سفكت دماؤنا، فكيف يأتيها تاجر ويأخذها بالسيف؟).
وعند سؤال رئيس اللجنة الملك عبد العزيز رأيه في موضوع تقسيم فلسطين، أجابه عبد العزيز بأنه واحد من العرب، ورأيه هو ما يجمع عليه العرب، وقد أجمعوا على رفض التقسيم، وهو واحد منهم، ليس له رأي خاص يخالف ما أجمعوا عليه. ثم أردف رئيس اللجنة يسأل الملك عمَّا إذا كان يمانع في مواصلة الهجرة اليهودية، فكان جواب عبد العزيز: (الموت خير لنا من قبول الهجرة، وكل جهادنا هو ألا يهاجر اليهود إلى فلسطين ولا يمتلكوا أرضها). وعندما أصدرت تلك اللجنة المشؤومة توصياتها ، وتبين فيها الإجحاف بحق فلسطين، سارع الملك عبد العزيز بالكتابة إلى الرئيس الأمريكي هاري ترومان معترضاً ومذكراً أمريكا بما تدعيه من مبادئ الحرية والإنسانية، محذراً لها ألا تكون كبريطانيا التي يخالف سلوكها ما تتشدق به من شعارات لمناصرة قيم الحق والعدل والسلام: (... نربأ بالحرية الأمريكية أن تعالج الظلم بارتكاب ظلم أفدح منه، وأن تسعى لإغاثة شعب بائس على حساب بؤس شعب آخر، وأن تطالب بحرية شعب مضطهد مشتت، بينما أن ذلك يؤدي إلى استعباد شعب آخر واضطهاده).
ويُكْرِه أمريكا على التخلي عن قرار التقسيم:
ثم يكتب عبد العزيز لترومان بعد أن أغضبه تعليق الأخير على توصيات اللجنة البريطانية - الأمريكية عن موضوع فلسطين، الذي فاحت منه رائحة خذلان أمريكا للعرب، وخيانتها للعهد الذين بينهم: (اليهود ليسوا إلا فرقة ظالمة باغية معتدية، اعتدت في أول الأمر باسم الإنسانية، ثم أخذت تظهر عنوانها الصريح بالقوة والجبروت والطغيان... لقد دهشت للإذاعات الأمريكية التي نسبت تصريحاً لفخامتكم بدعوى تأييد اليهود في فلسطين، وتأييد هجرتهم إليها، بما يؤثر في الوضع الحاضر، خلافاً للتعهدات السابقة... كيف لأمريكا أن تحارب من أجل إقرار قيم الحق والعدل والإنصاف في سائر أنحاء العالم، ثم تمنع هذا الحق والعدل عن العرب في بلادهم فلسطين التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم منذ العصور القديمة؟!). وفي رده على تعليق ترومان على رسالته هذه، كتب له عبد العزيز: (الآن يراد باسم الإنسانية أن تكره الأكثرية العربية في فلسطين على إدخال شعب بغيض لهم ليصبح أكثرية، ويصبح الأكثرون الأقلية! وأعتقد أن فخامتكم توافقون معي على أنه لا يوجد شعب في العالم يمكن أن يقبل بأن يدخل عليه في بلاده شعب أجنبي عنه حتى تكون له الأكثرية ويتحكم فيه بما يشاء).
وفي عام 1947، وجَّه الملك عبد العزيز وزارة الخارجية بإرسال مذكرتين إلى كلٍّ من المفوضية البريطانية والمفوضية الأمريكية بجدة بشأن لجنة التحقيق الدولية بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها ، محذِّراً من تأييد الصهيونيين الذين سيكونون وبالاً على الشرق الأوسط وعلى الإنسانية جمعاء، وترى حكومته في هذه السياسة سبباً قوياً لإثارة حرب عالمية ثالثة تكوى بها البشرية، مؤكداً عزم العرب على القتال حتى آخر ولد يولد لهم، دفاعاً عن النفس والوطن والشرف، مشيراً إلى أن هذا ما عرفه عن العرب، وهو واحد منهم. كما كتب في العام التالي إلى الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن، مطالباً بمنع يهود اليمن من الهجرة إلى فلسطين.
وهكذا تواصلت جهود الملك عبد العزيز في كل اتجاه مع الأشقاء والأصدقاء موظفاً كل مهاراته القيادية الفريدة، في محاولة مستميتة لدفع الخطر عن فلسطين بكل وسيلة ممكنة. وتحت ضغوط عبد العزيز المستمرة وإلحاحه الشديد ومصارحته للأمريكيين بما يمكن أن يحدث في العالم من خراب جراء تأييدهم الأعمى لليهود، أعلنت أمريكا في العاشر من جمادى الأولى 1367 (الثامن عشر من مارس 1948) تخليها عن تأييد مشروع تقسيم فلسطين؛ غير أن هذا كله لم يكن كافياً لكي يطمئن قلب عبد العزيز على سلامة فلسطين ونجاتها مما يحدق بها من خطر جسيم يهدد وجودها، يراه وشيكاً، بناءً على ما ظهر له من قبل من مراوغة بريطانيا. وعليه وجَّه عبد العزيز خارجيته في السادس والعشرين من جمادى الثانية 1367 (السادس من مايو 1948) بالكتابة إلى المفوضية البريطانية في جدة، محذراً بريطانيا من ترك فلسطين بعد اليوم الخامس عشر من مايو للعام نفسه، كما هو معلن، ليعيث فيها اليهود فساداً، وما قد يترتب على ذلك الفراغ من صدام دامٍ بينهم وبين العرب، مؤكداً في الوقت نفسه حرص العرب على حفظ النظام والأمن في فلسطين.
ساعة الصفر:
هذا ولما حانت ساعة الصفر، وطفح الكيل وتبيَّن للملك عبد لعزيز أن الخطر المحدق بفلسطين، الذي ظل يكافح بكل وسيلة ممكنة ليدفع شبحه عنها، آتٍ لا محالة، لم يتردد لحظة في تأييد كل ما اتخذه إخوته العرب من إجراءات للدفاع عن عروبة فلسطين والحيلولة دون قيام دولة يهودية فيها، فقرر مشاركة بلاده عسكرياً تضامناً مع العرب في دفاعهم عن فلسطين، وبالفعل أرسل فرقة من جنوده انضمت إلى القوات المصرية ثم ذهبت إلى فلسطين وأبلت بلاءً حسناً؛ ولا تزال أرض فلسطين الحبيبة تحتضن جثامين بعضهم الطاهرة بعد أن روتها دماؤهم الزكية، وتشهد لهم بذلك بعض شوارع فلسطين التي ما تزال تحمل أسماء بعضهم عرفاناً وامتناناً لقتالهم المستميت من أجل استقلالها وحرية أهلها وعزتهم وكرامتهم وحماية مقدساتهم. بل تهيأ الملك عبد العزيز لهذا الأمر مبكراً، وأعد له العدة أواخر عام 1947، أي قبل نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، لأنه كان يدرك جيداً إلى أين ستتجه البوصلة بعد ذلك؛ فأصدر أمراً عاماً إلى حكام نجد وشيوخ قبائلها لتسجيل المتطوعين، كما أمر بجمع تبرعات لدعم المجاهدين.
وبعد أن حدث ما حدث مما كان الملك عبد العزيز يعمل له ألف حساب، واجتهد كثيراً بكل ما أمكنه من وسيلة لدفع الكارثة عن فلسطين، طلبت منه بريطانيا في الثلاثين من أكتوبر 1948 عن طريق سفيرها في جدة، إقناع العرب بقبول (مشروع برنادوت) الذي قدمه الكونت فولك برنادوت وسيط الأمم المتحدة في فلسطين إلى أمين عام جامعة الدول العربية في السابع والعشرين من يونيو 1948، بشأن تسوية سلمية للموقف في فلسطين لإحالته للأمم المتحدة، فكان رد عبد العزيز مستنكراً ساخراً: (هل قال لكم العرب إننا ضعفاء، أم أنتم الذين أجبرتم العرب على وقف الحرب، فما ذا يفعل العرب؟ مساعدة.. لم تساعدوهم، وإنصاف.. لم تنصفوهم، وضمان.. لم تضمنوهم، فماذا تطلبون مني أن أقول للعرب؟ هل أقول: سلموا؟).
وبعد:
صحيح، الطعن في جهد السعودية والقدح في كفاح قادتها وجهادهم من أجل قضية فلسطين، بل والعرب أجمعين وكل المسلمين، ليس أمراً جديداً عليكم أيها القومجية الثورجية الإخونجية المرتزقة، فقد سبق لكم أن حاولتم مراراً وتكراراً عبر التاريخ، إثارة الفتن بين بريطانيا وبين السعودية، عن طريق بث إشاعات مغرضة على لسان وزراء الملك عبد العزيز، لكي توقعوا بينه وبين بريطانيا، فتنتقم منه حسب ظنكم، بل ربما تذهب بملكه إرضاءً لحقدكم الدفين وحسدكم، وما برنامج (للقصة بقية) الذي بثته (قناة الفتنة) في حلقات عديدة، إلا حلقة في تلك السلسلة الخبيثة، مع أن عبد العزيز ومن بعده أبناؤه القادة الكرام البررة، كانوا على الدوام أكثر الزعماء انتقاداً للموقف البريطاني تجاه فلسطين، وأكثرهم دعماً لها، وحرصاً على توحيد العرب للوقوف صفاً واحداً تجاه كل الأخطار التي هددت فلسطين على الدوام.
وعلى كل حال، هذا نزر يسير جداً من جهد السعودية الصادق الوفي الخالص لخدمة قضية فلسطين في عهد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود.. أقول نزر يسير لأن إحصاء جهد السعودية تجاه فلسطين أمر يطول شرحه ويتطلب مزيداً من الوقت والجهد والبحث، هذا إن لم يكن مستحيلاً، كما ذكرت في مقدمة المقال. فقد كان عبد العزيز يؤكد على الدوام للبريطانيين وللأمريكيين أن قضية فلسطين في مفهوم العرب كلهم قضية موت أو حياة، وحذَّرهم كثيراً من تأسيس وطن يهودي على أنقاض فلسطين يكون غارقاً في دمائه حتى الركب، ويشعل الحريق في منطقة الشرق الأوسط كلها، كأنه كان يصف ما يحدث اليوم بالضبط.
أجل، لقد جاهد عبد العزيز من أجل فلسطين ومن أجل العرب والمسلمين جهاد الأبطال الصادقين المخلصين لعقيدتهم ولرسالة بلادهم. وكان الزعيم العربي الوحيد الذي تعمل له كل من بريطانيا وأمريكا ألف حساب؛ إذ كان روزفلت يخاطبه في رسائله بـ (أيها الصديق العظيم) ويذيلها بـ (صديقكم المخلص) كما امتنع عن التدخين طيلة مدة اجتماعاته معه تقديراً واحتراماً له، بخلاف زعماء دول القومجية الذين يبادرون بصب الخمور في كؤوس الغربيين ويشعلون لهم السجائر والغليون. كما أهدى روزفلت كرسيه الخاص الذي كان يجلس عليه لعبد العزيز، تعبيراً عن تقديره وامتنانه له، بل ذهبت بريطانيا وأمريكا أبعد من ذلك في خوفهما من صدق عبد العزيز وقوة تأثيره، فعرضتا عليه عن طريق عملائهما مبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني لكي يتخلى عن مناصرة فلسطين التي كان عبد العزيز يرى أن أي اعتداء عليها هو اعتداء على بلاده بالدرجة الأولى واعتداء على جميع الدول العربية، في وقت كان عبد العزيز أحوج ما يكون فيه للمال، متناسيتين أن مؤسسي الأوطان أمثال عبد العزيز لا يمكن أن يكونوا عملاء مهما كان، وليس لهم أي استعداد لمقايضة ولو ذرة واحدة من تراب أوطانهم حتى بكنوز الدنيا كلها. فقد كان عبد العزيز قائداً عملاقاً وطنياً عربياً مسلماً حتى النخاع، عاش ومات ولم تدنس نزاهته أو تقواه ولا حتى شبهة واحدة. لكن مأساة التاريخ العربي أنه كلما جاءت أُمَّة لعنت التي قبلها، وأن المعاصرين يعيشون خلافات الماضي، وأحقاد الحاضر تنسحب على الماضي فتدمر المستقبل.
وأخيراً:
هذا نزر يسير جداً من سرد تاريخي موثق لجهاد عبد العزيز وكفاحه ونضاله من أجل فلسطين. أتمنى من أولئك القومجية الثورجية الإخونجية المرتزقة أن يطالعوه، ليقفوا على حقائق التاريخ قبل أن يفضحوا أنفسهم بجهلهم وادعاءاتهم التي تخالف الواقع ولا يسندها أي دليل؛ إذ يكفي ما رأيناه اليوم من نقل بعضهم لجنود إسرائيليين داخل شاحنات تجارية إلى قلب مخيمات إخوتهم الفلسطينيين لتقطيع أوصالهم وتشريدهم مقابل ثمنٍ بخسٍ.. فيا للخسة والدناءة.
ألا رحم الله الملك عبد العزيز آل سعود، وجزاه كل خير عن دفاعه عن قضايا الأمتين العربية والإسلامية. وسأوافيكم في مقالات قادمة - إن شاء الله- بجهود كل واحد من القادة أبنائه الكرام البررة الذين ساروا على خطى والدهم المؤسس في تحمّل مسؤولية رسالة بلادهم في كل شيء، فأصبحوا امتداداً طبيعياً لتلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.. وإلى لقاء في المقال القادم.