خالد بن حمد المالك
على طريقة (وَلّمْ العصابة قَبْل الفَلْقة) بدأ يكثر الحديث بين أصحاب قرار الحرب في غزة، الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبعض الدول الأوروبية واليابان وكندا وغيرها عن الاستعدادات لما ستكون عليه غزة بعد توقف العدوان، وإخلاء غزة من المقاتلين، وربما غير المقاتلين، في تسطيح سياسي تآمري يريدون تمريره على أصحاب الشأن، وأهل الأرض، وأصحاب القضية التي يتم التآمر عليهم منذ 75 عاماً.
* *
وكل الطروحات لمَا ستكون عليه غزة بعد توقف الحرب تصدر من إسرائيل، ويتم تحسينها وإخراجها لدى صناع القرار في أمريكا، وتتجول وتمرر فيما بعد بين الشركاء في الدول المتآمرة على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ليتم إخراجها على نحو يستجيب لتطلعات إسرائيل، ويحقق أهداف ومصالح الغرب والدول الاستعمارية، بشكل ينم عن أن عقلية المستعمر ما زالت تختزن الماضي الأسود، وتريد أن يعود من جديد.
* *
فأمريكا لا تدعم توطين الفلسطينيين خارج غزة كما هو حلم إسرائيل لأن هذا الأمر ليس سهلاً، أي أنها لا تعترض ولا تعارض، ولكنها لا ترى أن توجهاً كهذا يمكن تحقيقه بسهولة، ولهذا فتفكيرها ينصب حالياً على إيجاد تحالف يضم أمريكا وبعض دول أوروبا لضمان أمن إسرائيل من خلال السيطرة على غزة، واستمرار الاحتلال، غير أن إسرائيل مع عدم اعتراضها على إيكال مهمة إدارة غزة لهذا التحالف المتواطئ معها، فهي تصر على وجود أمني إسرائيلي في قطاع غزة على غرار ما هو موجود في الضفة الغربية، متفقة مع الطرح الأمريكي في أن حماس لا يمكن أن تكون جزءاً من الحل بشأن شكل الحكم في غزة بعد الحرب.
* *
البيت الأبيض يتحدث من الآن عن أن هناك مشاورات جادة بشأن شكل الحكم في غزة، يقابل ذلك تصريح لرئيس وزراء إسرائيل يؤكد فيه اعتزام إسرائيل تولي المهمة الأمنية في غزة، وأنها قد تترك الإدارة المدنية في غزة للفلسطينيين، مبرراً هذا التوجه الإسرائيلي الاستعماري بأن تل أبيب عندما فقدت السيطرة الأمنية في غزة كان هجوم السابع من أكتوبر، مع أنه يرى أن تقويض حكم حماس لا يعني تحقيق الأمن في إسرائيل، وحالياً تجتمع مجموعة السبع في طوكيو باليابان لمناقشة مصير غزة بعد أن يتوقف القتال.
* *
وهكذا يظهر جلياً بأن ما يجري خلف الكواليس بين المتآمرين على القضية الفلسطينية بقيادة الولايات المتحدة، إنما هو لوضع المسمار الأخير في عدم قيام الدولة الفلسطينية، وعدم التوجه لخيار الدولتين، مع أن هناك من يرى - خارج الصندوق - أهمية التفكير بحل سياسي يضمن للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، لأن الحرب ستنتهي في يوم ما، غير أن السلام لن يتحقق دون دولة للفلسطينيين، ومن المنطق أن يكون التفكير من الآن بالحل السياسي فهو الذي سوف يؤمن الاستقرار والسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وفي المنطقة والعالم.
* *
لكن لأمريكا رأي آخر يتناغم مع التفكير الإسرائيلي المتبلد الذي لا يعترف إلا بالقتل، ومنع أي حقوق للفلسطينيين، وعدم الاستعداد لأي تنازلات تمنحهم ولو بعض حقوقهم المشروعة بوصفهم أصحاب الأرض الحقيقيين، وأنهم لا زالوا في حالة احتلال، وامتداداً لهذا فإن واشنطن ترى بأن الوقت غير ملائم لوقف إطلاق النار، وأن البديل هدنة لثلاثة أيام، للمساعدة على إطلاق بعض المحتجزين لدى حماس، أي أن واشنطون لا يعنيها أن القتلى من المدنيين الفلسطينيين تجاوز عشرة آلاف وثلاثمائة شهيد، والمصابين أكثر من عشرين ألف شخص، وإنما كل ما يعنيها الأسرى لدى حماس وعددهم أكثر من 200 شخص في موقف يظهر انحياز أمريكا مع إسرائيل.
* *
والانحياز الأمريكي يمكن لتأكيده أكثر النظر إليه من خلال جلسة عُقدت لمجلس النواب الأمريكي للتصويت على قرار لـ»توبيخ!» النائبة في المجلس السيدة رشيدة - مع أني لا أتفق مع كثير من توجهاتها ومواقفها-، فقط لأنها صرحت عن موقفها المعتدل من الحرب في غزة، بشكل ينكر على إسرائيل استمرار هذا الهجوم الواسع ضد المدنيين، ومطالبتها بإيقاف القتال، ليضاف هذا الموقف إلى الانحياز الأعمى للإعلام الأمريكي والبيت الأبيض، وتصوير ما يجري وفق الرواية الإسرائيلية، واغفال ما يصدر عن الجانب الفلسطيني أو تكذيبه، وتجاهل استخدام إسرائيل للأسلحة المحرمة، واستهداف المساجد، والكنائس، والمدارس، والمستشفيات، ووصول الشهداء والمصابين والمفقودين من الفلسطينيين إلى هذه الأعداد الكبيرة.
* *
نعم، هناك مظاهرات في واشنطن ضد هذه الحرب الظالمة، وتنديد من بعض موظفي وزارة الخارجية الأمريكية بالموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل، وهناك دبلوماسيون في أمريكا انتقدوا نهج إدارة جو بايدن في تعاملها وتصعيدها للحرب، وأنه موقف متحيز، ما جعل شعبية الرئيس الأمريكي بايدن تتراجع بشكل كبير، ربما كلفته بخروجه من سباق الانتخابات، غير أن الموقف الأمريكي يبقى على ما هو عليه، دعم بلا حدود لإسرائيل في مجزرتها بغزة، والتغافل عن جرائمها، وعدم الجدية في البحث عن مسار للسلام بإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي ما قبل حرب عام 1967 وعاصمتها القدس.