د. شاهر النهاري
عثرت خطواتي في صغري على قطعة عملة قديمة مدفونة في التراب، لأحد السلاطين من عُمَان، «ضرب في مسقط 1315هـ» فركتها، ولمعتها، وحفظتها، وكانت منطقة تساؤلي وشغفي وحرصي ورعايتي، وطريقي في حب الاقتناء للنوادر، والذي استمر معي طوال فترات حياتي، وحتى يومي هذا، فلا أنزل بأرض إلا وأجدني لا شعورياً أبحث عن قديم عملاتهم، بحافز وشغف التجذر في التاريخ، وتعشق صور الماضي، حين جد بين يدي قطع معدنية هي خير ما يقتنى، وأصدق وأصغر ما يحكي من الآثار، التي يصعب تقليدها، أو تزويرها، أو إسقاط وجودها من سطور التاريخ.
هواية أصابتني بشيء من الجشع النوعي، فما أن أمتلك قطعة جديدة، إلا وأدخل في حالة عشق وغرام وإخلاص لها، فمرت سنوات عمري دون أن أبيع قطعة منها، ولا أن أبادلها بغيرها، ولا أهدي أيها للغير، بشعور أبوي الرعاية، وحب للتملك!
هواية تحكي الكثير في جلسات التمعن، وحينما أجتمع بعاشق لها يشاركني الشعور، وقد تغيب عني فترات وشهور، حينما تشتد حولي مشاغل الحياة، ولكني أعود لها طفلاً مندهشاً أتصفح دوائرها، ونقوشها، كلما وجدت الفرصة سانحة، وكم أحب أن أعددها وأرتبها، وأعيد تلميع هذه، وأصون تلك، أو أجدد أو أطور في كيفية تخزينها، لتستمر أعمارها أطول، وتعطيني من السعادة، أكثر.
هواية نبيلة، أنيقة، هواية عميق الأثر، والتأثير.هواية تدعو صاحبها للبحث أكثر في كتب التاريخ، ولو أنها أصدق أنباء من كثير من الكتب، فهي ثبات النقش والأثر، والقدرة على حفظ التواريخ، ولسان سردية الحكايات، بأدق تفاصيلها ومحتوياتها، فقطعة قد تحتوي خطأ في الصنع، ما يجعل وجودها حكاية، بعد أن تُسحب من الأسواق، لتغدو الندرة طابعها، مما يزيد من جهود الباحثين عنها، وبالتالي ارتفاع قيمتها.
وهنالك القطع، التي لا يستمر طرحها لفترات طويلة، بتدخل حدث تاريخي سريع، كحدوث حرب، أو تغيير حاكم، أو تبديل مسمى وطن، بعد انفصال أو توحد أو ثورات تحرق الأخضر واليابس.
كل ذلك وغيره من القصص المشوقة مثل غرق السفينة الأمريكية، التي كانت تحمل الريال السعودي الفضة والمسكوك في ولاية فلادلفيا، وغرقها في الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في عام 1943م، 1354هـ باستهداف من غواصة ألمانية أغرقت الحمولة كاملة، وقد تم استخراج جزء من تلك الحمولة من قبل السعودية سنة 1994م، واستخدمت الريالات المستخرجة منها كهدايا قيمة لكبار زوار الوطن السعودي، تحكي تاريخ الريال الفضي السعودي الأول، ومثل هذا من الحكايات هو ما يضفي على القطعة جوانب أكثر من الروعة، والندرة، والقيمة.
وهنالك القطع المعدنية، التي تنقش عليها مناسبات محلية أو عالمية أو وفاة شخوص مهمين لتلك الدول، ما يجعلها تصدر عملة تذكارية لفترة بسيطة، أثناء الاحتفال بتلك المناسبة، وبكميات لا تكون في العادة كبيرة، حيث يتم اختطافها من محبي هواية جمع التحف، أو العملات المعدنية، مثل الريال السعودي، الذي صدر بمناسبة مرور مائة سنة على التأسيس 1419هـ.
وبعض القطع النقدية القديمة، تصبح أيقونات فنية، وحسب ما بذل في صناعتها من فنون، وقيمة وروعة النقوش والخطوط عليها، وقيمة المعدن المستخدم في صناعتها، ما يجعل هواية التنافس على امتلاكها من هوايات اقتناء الأعمال الفنية، عند من يعرفون قيمتها، ليس المادية فقط، ولكن من النواحي الجمالية.
والبعض يعرف أن لها أسواق استثمار، لمن يصبرون، ولمن يقدرون القيمة، ولمن لديهم القدرة على عرض قطعهم في التجمعات، واختيار المكان والتوقيت المناسب، والزبون الغاوي، والمجتمع المشبع بثقافة اقتناء العملات المعدنية إما للبيع أو التبادل.
البعض ممن لديهم هوامش مادية مريحة تمكنهم من الاحتفاظ بقطعهم، وعدم التفريط فيها، قد يقومون بفتح متاحف شخصية، تتدرج حجما واسما ومكانة من مجرد اقتناء ألبومات يعرضها على أعين أصدقائه من محبي هذه الهواية، أو جعلها متحفا مصغرا في ركن من بيته، أو يشارك بها في فعالية أو معرض، أو أن يستقل في دار عرض، أو أن ينافس بمجموعته في المنافسات المحلية، والعالمية، وهذا يستلزم درجات أعلى من المعلومات والتوثيق، وإصدار الشهادات، حتى يتمكن من الخروج والدخول بها بين الدول، دون أن تعتبر دخولا غير رسمي، أو مسألة تهريب يعاقب عليها القانون.
الكثير من الهواة يكفيهم سعادة امتلاك تلك المجموعات من القطع المتنوعة، ويكتفون بالاسترخاء والغبطة بما تهبهم إياه من شعور بالعمق وملامسة التاريخ عبر أصدق دلائله، من مجرد استعراضها، والبحث عن مثيلاتها، وقيمتها في المزادات العالمية، وزيادة أعدادها حسب إمكانياته، وبالتالي ترك الإرث المادي والمعنوي والتاريخي، لمن يتبنى هذه الهواية من نسله، فلعلها أن تتبارك معه، وربما تكون وقفة للتاريخ، والندرة.
هواية مثلها مثل كثير من الهوايات، كجمع الأوراق المالية، أو السندات، أو الطوابع البريدية، وعجبا فقد يذهب جنون الهواية بعيدا لجمع أشياء روتينية أو سخيفة، وقد لا يكون لكثير منها فائدة مالية، ولا تاريخ يحكى، وهذا ما يصنع الفرق عند أصحاب العملات المعدنية، التي تستمر نفائسها، وقيمتها في الصعود، ويكون التفريط فيها مغبة فقد عند صاحبها، ليس فقط ماديا ولكن بالخسارة الثقافية، وبكآبة وحزن يلازمانه بعد أن كانت رفيق شغفه، ومفاتيح سعادة له.
للأسف، ففي السعودية، لا توجد الجهة الرسمية، التي يمكنها جمع ورعاية أصحاب هذه الهواية، وإرشادهم وترقية مفاهيمهم، وجعلهم يتعاملون معها كهواية ممتعة، وبعيد عن مجرد دخول مزادات تجارية، قد لا ترتقي بتلك الهواية وأهلها، وقد لا تشجع الأجيال الجديدة من الشباب على حبها، وتنميتها، وتوثيق خطواتها ونتاجها.