غالية محمد عقاب المطيري
الحب شعور إذا خالط القلب استحالت الحياة والأفكار والمبادئ إلى لا شيء، فالصحيح منها ما يقربك إلى محبوبك ويرضيه عنك حتى وإن خالف ذلك القرب المنطق والعقل أو حتى كان فيه هلاكك. وهذا ما جعل سلطان لم يتردد لحظة واحدة وهو يجيب ذلك السؤال الذي طرحته تلك المحبوبة وكأن قلبه هو من يتكلم ويجيب لأني أحببتكِ منذ الصغر وعشقتكِ وما زلت أحبك ولكن الغضب والقهر وتلك الأفكار التي سيطرت عليها منذ حفلة أهله جعلتها تصم آذانها عن نبرة الصدق في حديثه لتقول له: ومن أنت حتى أحبك أو حتى أن تتجرأ لتفكر بي. نهض من حافة السرير وهو ينظر لها نظرة تقطر حبًا وألمًا, ولو أن المتحابين اكتفوا بحديث العيون لما سمعنا عن خصام بين الأزواج والإخوة والأصدقاء، وهذا ما حدث لقد قال لسانه عكس ذلك - ولكني اشتريتكِ بمالي وها أنتِ تقفين أمامي. خنقتها العبرة ولم تستطع حتى الحديث فاكْتَفت بأن أشارت بيدها المرتعشة له بالخروج, وما إن خرج وأغلقت الباب من خلفه حينها فقط أذنت لعينيها أن تسكب ماءها لتُفرغ من داخلها كل ألم الانكسار الجاثم فوق صدرها كما تجثو الأفكار اليائسة في مخيلة من أُصيب بالاكتئاب، وما البكاء إلا مُتنفس جعله الله لتلك الأنفس المبعثرة.
أما هو فقد وقف خلف الباب المغلق وقلبه يعتصره الألم وهو يسمع صوت بكائها وكأن تلك الدمعات خناجر تنغرس في صدره، لأن القلب إذا أحب يُحزنه حزن من يحب ويؤلمه توجعه فكيف إذا كان هو من أحزنه؟!
نادى مدبرة المنزل وأمرها أن تجهز له الغرفة التي بجوار غرفتها وما أن استقر بها حتى اقترب من الجدار الفاصل بين الغرفتين وأخذ يستمع عله يسمع صوت أنفاسها وقد خلُدتْ إلى النوم، وهذه الفكرة جعلت السعادة تغمر قلبه لأنه يعلم أنها بجواره ويمكنه أن يراها ويشتم رائحتها. لقد كان يتساءل منذ دقائق إن كان اهتمامه بها عن حب أو هو كراهية؟ كان دافعها الانتقام من عقليات وأناسي يرون النسب هو المعيار الوحيد للتكافؤ، لقد أيقن الآن أنه لا يحبها فقط بل هي الأكسجين الذي بتنفسهُ. غفت عينه على ذلك الإحساس الذي لاعب أجفانه فتسلل النوم إلى جسده المنهك من رحلته طويلة تلك، وما النوم لأمثالهما إلا استراحة محارب.
وفي الصباح استيقظ على نور الشمس الذي تسلل عبر نافذة الغرفة بلا استئذان لينهض مسرعًا ليتفقد محبوبته كالطفل في نهار العيد ما أن يستيقظ حتى يفرك عينيه وتنتبه كل حواسه فيسرع ليصرخ بكل من في البيت ليعلن لهم أن اليوم هو يوم عيد.
هذا تمام ما كان يشعر به سلطان الذي أسرع إلى غرفة شيخة وطرق الباب وعندما لم يأته أي رد، فتح الباب بخوف وازدادت مخاوفه عندما لم يجدها فأخذ الهاتف واتصل بها ولم يلبث غير بعيد حتى سمع صوتها وخلا تلك الثواني دهر كامل فشعر بالارتياح وهي تقول: اعتذر منك ولكني بالعمل الآن,,,, سأتصل بك بعد دقائق ثم أغلقت وبالفعل ما هي إلا دقائق وعاودت الاتصال به ليبادر هو هذه المرة بالحديث ويقول لها بصيغة الاستفهام المبطن بالأمر: كيف تذهبين إلى عملك دون أن تخبريني؟ السائق ينتظرك استأذني واخرجي.
ولكنها ردت عليه قائلة: أرجوكَ لدي عمل مهم اليوم أعدكَ أن لن أكررها وسآتي للمنزل عندما انتهى أرجوكَ. استغرب لهجة الانكسار والرجاء في حديثها ولكنه رد متجاهلاً ذلك وقال لها: لا تتأخرين إذاً. أنهى ذلك الاتصال ليستعد للخروج لإنهاء بعض أعماله المهمة
ومن أن وصل إلى مقر عمله حتى أبحر به ولم يشعر إلا وقد تجاوزت الساعة الثانية ظهرًا فخرج متجهًا إلى المنزل تملأ السعادة قلبه وتظهر على قسمات وجهه الوسيم فيشرق فيَخالُهُ الناظر إليه ملكاً نورانياً لم تحطمه نكبات الحياة ولم تُغبر سحنة وجهه أعاصير الألم وشغف العيش. وهكذا هي سعادة الحب عندما يلتقي الإنسان بمن يحب يغشاه النور فيستحيل الجسد المنهك إلى جسدٍ قوي شديد وتعلو قسمات الوجه لمحات من جمال لا يمكن وصفه ولا تعلم من أين مصدره، وأما الروح فتستحيل شعاعًا من نور لا يمكن لمسه أو الاقتراب منه. أما شيخة فقد خرجت من عملها واتجهت الى منزل أهل سلطان فاستقبلتها أم سلطان بكل ترحاب ولكنها فجاءتها بقولها: إني امرأة عقيم وأتمنى أن تجدي لابنك من تناسبه، ثم ختمت حديثها بقُبلة على رأسها ثم غادرت مسرعة وكأنها أزالت حملاً ثقيلاً كان يثقلها. وصلت قبل أن يصل ودخلت غرفتها وأغلقت بابها، أما هو فقد بحث عنها عند وصوله ووقف على باب غرفتها مترددًا يدفعه حبه إلى الدخول ويمنعه كبرياؤه من ذلك ليعود إلى صالة الطعام ويأمرهم أن يخبروا سيدة المنزل بجاهزية الأكل واستدعائه لها، وما ذلك كله إلا لتحظى عيناه بالنظر إليها، وبالفعل حضرت وهي منكسة الرأس منكسرة الطرف كما ينكس الفقير العفيف رأسه في حضرة موائد الأثرياء وصولجان قصورهم، ولم يكن حالها بعيدًا عن حال ذلك الفقير، فالفقير منعه كبرياؤه من النظر حتى لا تشف عيناه عن عوزه وحاجته. أما هي فمنعها كبرياؤها من النظر حتى لا يظهر في عينيها انكسارها وضعفها. وذلك الانكسار راع ذلك المحب الجالس يراقبها فهتف بها قلبه قبل أن يخرج ذلك الهُتاف على لسانه أصواتًا مبعثرة من شدة خوفه عليها: هل أنتِ متعبة؟ ماذا بك؟ كانت تود أن تقول وهل في هذه الحياة شيء لم يتعبني؟ ولكنها أجابته: لا الحمد لله بخير، هل تأمرني بشيء؟ فرد عليها بقوله: إذًا اجلسي وتناولي الطعام. لا شكرًا لقد تناولت غدائي في عملي. لم يُعر ردها أي اهتمام وأشار إليها بالجلوس فجلست ولكنها لم ترفع رأسها فدفعه انكسارها واستسلامها ذاك للغضب ولعل غضبه كان من نفسه لأنه يشعر أنه هو من سبب ذلك الانكسار فقال: اعتذر عن... لم تدعه يكمل بل قالت: أنا من أعتذر آسفة، لقد قلت لك كلامًا لا يليق صدقني أني لم ولن أضع فوارق بين الناس ولم استشعر يومًا أني أفضل من أي إنسان آخر بل أنا أُوْمِن أن الإنسان بأخلاقه وأن أخلاق الناس هي من ترفعهم أتخفضهم. قاطعها: لا عليكِ. وحاول أن يمسك بيدها لعل ما يشعر به تجاهها يصل لها ولكنها أبعدت يدها عنه كمن لدغته أفعى مما جعله ينظر لها باستغراب لتقول له: أنا لا استحقك فأنت رجل كامل وأنا امرأة ناقصة لذلك أنا أعلم مكاني ومكانتي وأعدك أني لن أتجاوزها مرة أخرى، أما مالُكَ سأعيده لك فقط أريد أن أعلم مقدارهُ فأجابها: مليونان هل تستطيعين سدادها؟! أُسقط في يدها ولكنها قالت -بإذن الله-. إذًا ستمكثين لدي حتى تعيدي لي مالي وستعملين لدي وسأعطيك عن كل يوم مبلغًا من المال هل توافقين؟ أجابتهُ بفرح نعم. وأخذت تحسب في عقلها وتقول لنفسها أنها في أقل من سنتين ستسدد جميع ديونها له. تلك الفكرة أسعدتها وارتسمت ابتسامة صافية عذبة على ثغْرِها. سرت سعادتها له مما دفعه إلى أن يقول: إذًا تفضلي بتناول الطعام وارفعي رأسك وحدثيني محادثة النّد للند. ومضي يومهما الأول ينم عن صحبة جيدة وفي ثنايا الغد كانت هناك مفاجآت لم تكن في الحسبان، وما الحياة إلا يوم بين أيدينا أضعنا جمال لحظاته وغد مجهول نحلم أن نحقق به ما ضاع منا. وهكذا استيقظ كل منهما على أمل تحقيق هدفه، سلطان كان هدفه أن يكسب قلبها فتحبه، أما هي فكان هدفها أن تجمع المال لتتخلص من هذا الزواج، فشخصية شيخة من النوع الصبور والقانع الذي يرى في كل امتحان فرصة ونعمة مخفية، وبهذا النمط استطاعت التغلب على جميع الصعاب التي واجهتها ولكنها هذه المرة كُسرت بشكل لم تستطع معه أن تتغلب على فكرة أنها بضاعة معيبة تم بيعها بأبخس الأثمان. هذه الفكرة جعلتها تفعل أمرين لم تتوقع يومًا أن تقوم بهما، أولهما أنها اتجهت للبنك وألغت بطاقتها المصرفية التي كان المتصرف بها إخوتها، والأمر الآخر أنها اتصلت في تلك الليلة بزوجها السابق فهد وطلبت مساعدتها ببيع قطعة أرض تعد ملكيتها لها وتحويل المبلغ لها دون علم إخوتها، وها هي تنتظر وصول تلك الحوالة المالية ولكن ما وصل لها أمر فاجاءها لقد وصلت أم سلطان وهي تشتاط غضبًا وبرفقتها فتاة ممشوقة القوام جميلة وأنيقة، أقبلت شيخة بكل حب لأم سلطان لأنها كانت ترى بها عوضًا عن أمها التي فقدتها ولكن صفعة هوت بها أم سلطان على خدها جعلتها تقف مذهولة عن تلك العبارات التي قذفت بها كما يقذف البركان البكر أولى حممه المتناثرة بكل قوة، لم تعِ من تلك الحمم إلا أنها وصُفتْ بأنها محتالة فقيرة لا تليق بابنها فسحرته وجعلته يعزف عن الزواج في شبابه والآن أتتلتكمل قضاءها على ما تبقى منه ولكنها لن تسمح لها بذلك، كانت شيخة في صدمة كيف تنقلب محبة شخص إلى عداوة، كيف ذلك؟! وما سؤالها ذاك إلا سؤال أعيى علماء النفس البشرية تفسيرهُ, فكيف تنقلب العلاقات البشرية من صداقة إلى عداوة؟!!! وكيف تستطيع النفس البشرية أن تنسى لحظات الصفاء والسعادة التي عاشتها مع شخص آخر؟؟؟!!! كانت تتسأل في داخلها لماذا لا تصب غضبها على ابنها وتأمره بطلاقها لماذا نصُب غضبنا على الضعيف دونما التوجه لمن سبب ذلك الغضب لنا؟!
هذه كانت نظرة شيخة للأمور ولكن وجهة نظر أم سلطان أمر آخر وهكذا هي الحقوق تضيع بين الناس لضياع المعايير الثابتة أو غيابها عن الوعي الجمعي في المجتمعات لم تكتف أم سلطان بذلك، فالقد أمرتهم بنقل غرفة شيخة إلى مبنى الخدم فهذا مكانها لم تعترض شيخة بل كعادتها رأت في ذلك خيراً قد لا تعلمه وواصلت أم سلطان أؤمرها وطلبت أن تعد مائدة حافلة لاستضافت ضيفتها الفاتنة وأن لا تحضر شيخة تلك المائدة وحذّرتْ الجميع من أن يعلم سلطان بذلك وبالفعل تم لها ما أرادت، أما سلطان فقد آتاه اتصال من أخوة شيخة يسألونه بل يهددونه بأخذ أختهم, ولكنه امتص غضبهم بأن حوَّل لهم مقدار راتبها ولكن ما فعلتهُ أخافه، فهو لم يخش تهديد إخوتها بقدر خشيته من فعلِها ذاك. لذلك ما أن وصل البيت إلا وسأل عنها متجاهلاً وجود تلك الضيفة ومحاولات والدته لفت انتباهه وأقام الدنيا ولم يقعدها عندما علم بما قامت به والدته, لذلك أخذها وبكل الحب الذي يملأ قلب الإنسان لأمه قال لها: يا أمي هل حصل منها ما يقلل احترامك والله يا أمي لو أن قلبي الذي بين أضلعي أساء لك لشققت صدري ورميت به غير آبه بحياتي ومماتي. فردت عليه أمه مسرعة: حفظك الله لي ولكني لا أريد أن تحطم حياتك. يا أمي لا حياة لي بدونها, ألم تعلمي أني كل تلك السنوات أنتظر هذه اللحظة؟.. ولكنها يا بني عقيم.. أعلم وأعلم أني قد أندم ذات يوم ولكن دعيني أحيا مع من أحب فلا أعلم غدًا ماذا يحدث لي ولعل ما أشعر به تجاهها مجرد نزوة أو رغبة قد تختفي بعد أيام ولكن إصرارك على منعي قد يزيد مدتها. هذا المنطق جعل والدته ترضى عنه وتغير كل خُططها. وهكذا هو الحوار دائمًا ما يُغني الإنسان عن كثير من المعارك والصراعات, وبذلك أغلق جبهة المواجهة مع والدته. ولكن كيف ستكون نهاية الصراع بين القلوب؟ ومن الرابح؟ وهل يمكن أن يكون في الحب فائز وخاسر؟!