د. حامد بن مالح الشمري
التاريخ يعيد نفسه؛ وما أشبه الليلة بالبارحة، وعد بلفور المتجدد برعاية الإمبريالية الصهيو-صليبية لتمرير المشروع الاستعماري الجديد القائم على الاستحواذ الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي بشكل عام، والخديعة والشر والدمار والتهجير القسري وتمدد الاستيطان للصهاينة، وزعزعة استقرار الشرق الأوسط بشكل خاص. الحرب القائمة ضد قطاع غزة وأهدافها التوسعية هي امتداد للحروب الصهيو-صليبية لتكرار نجاح مشروع وعد بلفور الذي أوجد كياناً للشتات الصهيوني، وما أعقب ذلك من إقامة دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، لن يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن ما يفعله الصهاينة من جرائم حرب وبدعم معلن وكامل من أمريكا وحلفائها ما هو إلا بداية لحروب أخرى؛ وآخرها التصريحات الصهيونية الإرهابية المتطرفة بشأن إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة المحاصر المدمر؛ ومن الطبيعي أن يتبجحوا بذلك وأمريكا وحلفاؤها قدموا كل أشكال الدعم العسكري للصهاينة لقتل آلاف الأطفال والنساء بجميع أنواع الطائرات والصواريخ والمتفجرات والقنابل العنقودية والفسفورية. ليس بالضرورة أن تكون حروبهم القادمة عسكرية وإنما اقتصادية وثقافية واجتماعية وفق النموذج الغربي الماسوني الصهيوني.
تعكف أمريكا وحلفاؤها منذ عشرات السنين على ترويج عدد من البرامج والنماذج الثقافية والإعلامية المؤدلجة ورفع شعارات نبذ العنف والإرهاب وحقوق الإنسان كغطاء لفرض الهيمنة والجبروت العسكري ونشر الثقافة الغربية الإمبريالية التي تقضي على مقومات التماسك والبناء الأسري، وشرعنة التمرد والانحلال والتفسخ الأخلاقي وإطلاق الحريات الفردية الشاذة. التنوع الثقافي في سياقه الصحيح وتقارب وتكامل الثقافة الإسلامية والغربية نتيجة التواصل بين الشعوب من الأمور الجيدة، إلا أنه يشوبه الإقصاء والاستغلال والهيمنة والفوقية من الطرف الغربي، بالرغم من رفع الشعارات المروجة لذلك، حيث يدرك كل ذي لب أن هذه الدول لن تتنازل عن معتقداتها وتاريخها وهويتها ومصالحها وأطماعها التوسعية في استغلال واستنزاف ثروات الدول ومنها الإسلامية والعربية، كما أن من خططهم وقف التمدد الإسلامي القائم على القيم والمبادئ الإسلامية الصحيحة، والعمل على إضعاف الأمة الإسلامية وتفرقها وتشرذمها، ومهما روجوا وجنحوا للسلم والمصالحة فإن ما يخفون ويخططون له أعظم وأشد فتكاً بالإسلام والمسلمين. الكثير منا يتحدث عن عدم صحة المؤامرة الغربية التي يتحدث بها البعض، وأنه يجب تناسي الماضي بكل تفاصيله الانهزامية وإنه لا وجود لكراهية الغرب للعرب والمسلمين، وهذا من مؤشرات الاستسلام والضعف وعدم اعتماد الدول الإسلامية والعربية على أنفسها والاستمرار في استجداء الغرب بدون طائل وإلحاق الضرر في مكامن قوة أمتنا الإسلامية والثقافية والاقتصادية، وقد دحضت الحرب على غزة فكرة نفي المؤامرة وأكدت على وجودها وبشكل كبير في العقل الصهيو-صليبي، الذي يغذي هذه الفكرة مع كل ما يتعارض مع مصالحه وهيمنته، ولكن يجب ألا تكون فكرة المؤامرة شماعة لمظاهر التخلف الذي تعيشه كثير من الدول الإسلامية والعربية.
العقل الغربي المنحاز ضد العالم الإسلامي بثقافته التاريخية الاستعمارية أمر ثابت وراسخ في فكرهم وثقافتهم، مهما أبدينا لهم من حسن النية والصداقة وتبادل المصالح، فلن يتغير تجاهنا والشواهد على ذلك كثيرة. السياسة الغربية الداعمة للمحتل الصهيوني انكشفت أمام شعوبها لمناصرتها للظلم والتدمير والقتل والإبادة ضد الأبرياء العزل، وما شهدته الكثير من الدول الأوروبية من الساسة والمثقفين المعتدلين والشعوب النزيهة تندد بسياسة بلدانها، وداعمة لفلسطين ومطالبة بوقف العدوان الصهيوني الغاصب. الحرب الصهيو-صليبية على شعب غزة فضحت شعارات الغرب الأخلاقية في حرب أوكرانيا وأظهرت المعايير المزدوجة لأمريكا وحلفائها التي لا يمكن أن تخفيها لقاءاتهم وتصاريحهم الإعلامية. كما أن التاريخ الدموي الصهيوني بحق الفلسطينيين ما قبل السابع من أكتوبر لا قيمة له في نظر الإمبريالية الصهيو- صليبية؛ وهذا من الشواهد على الأهداف الخفية لأمريكا وحلفائها من الدعم والتواجد الميداني المكثف غير المسبوق في هذه الحرب الدائرة.
المملكة العربية السعودية بقيادة ورؤية ثاقبة للملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين القوي الأمير محمد بن سلمان أظهرت وبقوة مواقف بلادنا في الكثير من القضايا الإقليمية والدولية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية بعيداً عن الشعارات والأبواق الزائفة، كما أن قيادتنا الرشيدة تعمل ليل نهار على استغلال مكامن قوة وقدرات بلادنا وموقعها الجغرافي دينياً وسياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً بتنافسية عالمية غير مسبوقة في المجالات كافة لإحداث نقلة نوعية في التنمية وتنويع القاعدة الاقتصادية والصناعية؛ مع ما تبذله المملكة من جهود كبيرة لدعم الإسلام والمسلمين في أنحاء متفرقة من المعمورة، وجعلهم على اتصال وثيق بأبناء عقيدتهم الإسلامية في هذه البلاد المباركة. الأحداث الجارية والتاريخ للحرب على الإسلام من الإمبريالية الصهيو-صليبية تجعلنا نعيد النظر في أمور كثيرة ومنها مواجهة تمدد الفكر الغربي المؤدلج والمدعوم بكل الوسائل والأدوات للهيمنة الغربية واختراق كل الحواجز، مما جعل الكثير ينساق وراء الفكر والثقافة الغربية القائمة على العنصرية وعدم الحياد وتزييف التاريخ والحقائق وترويج الأكاذيب والسقوط الحضاري والأخلاقي الغربي الذي اثبتته الحرب الصهيو-صلبية ضد غزة.
لست في واقع الأمر مع دعاة التقوقع وعدم الاستفادة من التجارب العلمية والاقتصادية والتنموية والصناعية في كثير من دول العالم، فلدى الكثير من الجامعات والمصانع والمنظمات والشركات العالمية الكثير من التجارب والمعرفة الناجحة والخبرات المتخصصة التي تستحق الإفادة منها وبما يتناسب مع ثوابتنا وقيمنا وثقافتنا واحتياجاتنا التطويرية. أمتنا الإسلامية مطالبة بأن تحافظ على هويتها الإسلامية والاعتماد على إمكاناتها ومواردها البشرية والطبيعية والتكامل فيما بينها بما يعود بالمنفعة والازدهار على شعوبها، وألا تكون مسخاً وصورة باهتة لبعض المجتمعات الغربية التي استشرى فيها التفكك الأسري والمجتمعي والتحرر الزائف وتعاظم العنصرية المقيتة والشذوذ الفكري والأخلاقي.