د.عبدالله البريدي
طرح المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار مفهومًا محوريًّا، ويتمثل في مفهوم «السردية» Narrative ، وقد ميَّز بين نوعين من السرديات، وهما:
- سرديات كبرى Grand Narratives
- سرديات صغرى Little Narratives
ويقرر ليوتار أن الثقافة الغربية المعاصرة - بقالبها الذي يسمى بما بعد الحداثة - تسعى إلى تقويض السرديات الكبرى وتهميشها ما أمكن، ليكون الفضاء متاحًا ومفعِّلًا للسرديات الصغرى، وذلك بزعم أن السرديات الكبرى تزعم امتلاك الحقيقة، والقدرة على صوغ الحياة بطريقة ما ونحو ذلك من المبررات الواهية. ولقد تفاعلت الجماعة المعرفية كثيرًا مع هذا المفهوم في أدبيات حقول معرفية متنوعة، وجعلت تتناوله بطرق متنوعة. هذا، وإنه لا يهمنا البتة في هذا النص الصغير تناول فكرة ليوتار بتفاصيلها، وإنما الذي يعنينا هو عموم الفكرة وانعكاساتها وكيفية توظيفها في الواقع، بما يجعلنا قادرين على الفهم والتشخيص لجزء مما يحدث في واقعنا المعاصر الغامض المربك.
ما المقصود بمفهوم السردية؟ وما هي هذه السرديات الكبرى والصغرى؟ وما سماتها؟ وما خطورتها؟ هذا نص مختصر يقدم إجابات مكثفة، وذلك عبر فقرات متسلسلة:
1 - ما السردية وما نوعها؟
السردية هي: قصة «تحكي» أو «تسرد» منظومة من الحقائق أو التفسيرات أو التوصيفات حيال أفعال أو أحداث أو مصائر معينة، بقالب مثالي (ما يجب عليه أن يكون الواقع) أو بقالب واقعي (ما عليه الواقع فعلًا).
والسردية تنقسم إلى سردية كبرى، وسردية صغرى. والسردية الكبرى تتعلق بالقضايا الكبيرة في الوجود والحياة كالمعتقد والفكر والمعنى والوعي والمصير، في حين تُعنى السردية الصغرى بالقضايا الصغيرة في حياة الإنسان مع اصطباغها غالبًا بطابع مادي أو مفضٍ إلى مادي، مثل: وظيفته ومعاشه، وإنجازه الشخصي بقالب فرداني، وجسده ولذته ونحو ذلك من «المنمنمات الحياتية» (= المسائل الصغيرة وربما التافهة).
2 - ما السرديات الكبرى وما سماتها وما الذي يصنعها؟
الدين هو أكبر مصدر لصناعة السرديات الكبرى، ومنها: سردية الخالق والمخلوق، سردية الحق والباطل، سردية الخير والشر، سردية الصالحات والسيئات، سردية العمل والجزاء. وتحاول بعض الفلسفات طرح ما تعده سرديات كبرى، من قبيل: سردية الإنسان والمعنى، سردية الإنسان والوجود، سردية الروح والمادة، سردية الموضوع والذات، ونحو ذلك من السرديات المتسربل بعضها بقدر كبير من الغموض والتكلف؛ في منافسة خاسرة إلى حدٍّ كبير مع الدين، حيث إنه قد ثبت أن الدين ينجح دومًا في بناء مثل تلك السرديات الكبرى في عموم المجتمعات وسائر الأزمان، كما يفلح في ترسيخها وتفعيلها في الواقع أيضًا.
وتتسم السرديات الكبرى بأنها تصيِّر الإنسان مؤمنًا، إذ تدفعه إلى الإيمان بأن ثمة معنى ومن ثمَّ رسالة في الحياة، ومن هنا يتخلق لديه إهابُ المعنى والمسؤولية، ويدخل في هذا: التفكير المعمق بالماضي والحاضر والمستقبل، فيؤمن بأن: الماضي هو ماء الحاضر، والحاضر هو جنين المستقبل, وهنا نستذكر شذرة مذهلة لجورج أوريل في روايته الذائعة 1984، حيث يقول: «من يتحكم بالماضي يتحكم بالمستقبل، ومن يتحكم بالحاضر يتحكم بالماضي». قد تبدو هذه العبارة واضحة، ثم ما تلبث أن تخلق نوعًا من التشوش أو الغموض، ولذا فهي بحاجة إلى تجلية. باختصار، هذه الشذرة تتضمن معادلة، مفادها كما يلي: البداية هي أن تكون قويًّا في حاضرك، وهذه القوة الحاضرة ستجعلك قادرًا على تثوير ماضيك وجعله ملهمًا لك، بما يبني حاضرك على نحو يفضي بك إلى تشييد مستقبلك كما تنشد؛ وفق سرديتك الكبرى، وإلهاماتها وهندستها.
3 - ما السرديات الصغرى وما سماتها وما الذي يصنعها؟
السرديات الصغرى تصوغها فلسفات ذات طابع مادي أو تؤول إلى المادي بشكل أو بآخر، وكثيرًا ما تصوغها باقتدار عالٍ عبر برمجة ذهنية مجتمعية طويلة الأنفاس، وهذا مكمن الخطورة. ومن أبرز هذه الفلسفات «النيوليبرالية» (الليبرالية الجديدة) بعتادها الفكري والاقتصادي؛ ضمن سياق العلمانية الشاملة (=فصل جميع القيم عن حياة الإنسان العامة والخاصة على حد سواء)، حيث تصنع هذه الفلسفات إنسانًا على درجة عالية من الفردانية واللامسؤولية والمادية، إذ هو لا يهتم إلا بوظيفته وعمله وإنجازه ومجده الشخصي وشهرته، وتصنع هذه الفلسفة إطارًا مواتيًا لتسويق المنتجات والخدمات لتعظيم التراكم الرأسمالي وضمان استدامة النمو الرأسمالي، وهو ما يقضي بخلق الإنسان الاستهلاكي بل قل: «الإنسان اللذائذي»؛ في توليفة تملأه بالأنانية والنفعية والآنية، فلا يحتمل تقديم تضحيات لمجتمعه الصغير أو الكبير، كما أنه يغرق في اللحظة الراهنة ويمطِّط لذائذها وتفاهاتها، فلا يطيق تفكيرًا في المعنى والغد والمصير، ويتحجر قلبه إذ ذاك، فلا يكاد ينبض بمعنى ولا يتدفق بمسؤولية.
ويمكننا الوقوف مع بعض السرديات الصغرى عبر توصيفات خاطفة:
1) سردية الموظف الفائق: وهذه السردية تحيل الإنسان إلى «كائن وظيفي»، فالوظيفة هي التي تشكل رؤيته الكلية في الحياة وتحدد معناها، فهي التي تحدد له «الحلال والحرام»، وهي التي تصوغ عقله وقلبه ووقته، فيتماهى معها، ويبذل كل شيء من أجل تحقيق أعلى المستويات الممكنة من الأداء والإنجاز والإدهاش والثروة والشهرة، وهنا نجد شغفًا لا ينفد، وجهدًا لا ينقطع، فهو يواصل نهاره بليله دون كلل أو ملل.
2) سردية الجسد الفائق، وهذه السردية تتداخل مع سابقتها في جوانب عديدة، وتصنع العجائب من جسد الإنسان، حيث يتحول جسده إلى مولِّد ضخم للطاقة واللذة والثروة معًا، ويدخل في ذلك المرأة التي تقتات من جسدها وأنوثتها وفتنتها، فتبيع خدماتها بلا حياء لعملائها، وكذلك اللاعب الذي يقتات من جسده وعضلاته وفنياته، فيبيع خدماته بلا انتماء لمن يدفع أكثر، وهذا ما يفسر لنا سر صرف هؤلاء للأوقات المتطاولة من أجل بناء الجسد ومده بعوامل فعاليته ووقايته من الضعف والضمور والشيخوخة.
3) سردية الثروة الفائقة، وهذه السردية تصيِّر الإنسان آلة لتوليد رأس المال ومراكمته بانتظام وشراسة، فهو يعمل من أجل كسب المال وإدخاره وإعادة استثماره، لينمو في قوالب مضاعفة، ويمكن لهذا الإنسان أن يضحي بصحته ونومه وجسده فضلًا عن قيمه من أجل ثروته ونمائها.
4) سردية الشهرة الفائقة، وهذه السردية تحيل الإنسان إلى «كائن استعراضي» ضمن كينونة مفادها: «أنا مشهور، إذن أنا موجود»، فتغدو الشهرة هواءه الذي يتنفسه، وتكون هي المولد للدوبامين المنشط له للقيام بأي عمل من أجل توسيع نطاق شهرته واستدامتها، حتى لو اقترف أعمالاً غير أخلاقية، فالشهرة تبرر الوسيلة. ويدخل في عِداد أولئك: مشاهيرُ شبكات التواصل الاجتماعي، والمثقفون والكتَّابُ الاستعراضيون.
4 - السرديات الكبرى : صناعة قرآنية
لعله اتصح لنا خطورة السرديات الصغرى وخطورة إشاعتها في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، ومن هنا ندرك سر العناية الفائقة من لدن القرآن الكريم لبناء «السردية الكبرى الأم» للوجود الإنساني، والمتمثلة بسردية أبينا آدم عليه السلام، وكيف خلقه الله تعالى، وكيف كان حاله في الجنة متنعمًا، مع الإتيان على سبب إهباطه منها، وكيف هي علاقة الإنسان مع إبليس في إرهاص لسرديات كبرى تتناسل من السردية الأم، وهي: سردية المعبود والعابد، سردية الخير والشر، وسردية الإيمان والكفر، وسردية الظهر والخبث، وسردية العدل والظلم، وسردية الابتلاء والصبر، وسردية الحياة والموت، وسردية الجنة والنار. ويمكن القول باطمئنان إن القرآن الكريم هو «ملحمة السرديات الكبرى»، إذ لا توجد سردية كبرى لم يذكرها أو يشر إليها، وهو ما يصيِّره كتابًا ملحميًّا جذابًا، فالإنسانُ ظمأٌ ورِيهُ السرديات الكبرى، حيث تعكس هذه السرديات أصل الإنسان وحاله ومآله، وهي بذلك كافية لبذر الحقيقة والطمأنينة، وتأتي سرديات القرآن في قوالب برهانية بليغة مدهشة، حيث تسوق الأدلة المقنعة وتطوي ما يقتضيه الحال، ومن ذلك قوله تعالى في هذه الآيات الكريمات:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (الحجر: 26)؛ {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 35-37)؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)؛ {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (القيامة: 37-40)؛ {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ....} (الكهف: 29)، {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: -20)؛ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (النحل: 4)؛ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155- 157)؛ {وَاللَّهُ خَلَقَكُم ثُمَّ يَتَوَفّاكُم} (النحل: 70)؛ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185).
هذه وأمثالها سرديات قرآنية كلية مطلقة، ولا يمكن البتة لفلسفات إنسانية جزئية نسبية عابرة أن تقضي عليها كما تأمل أو تزعم، فهي سرديات خالدة خلود القرآن في الوجود، على أنه من الواجب المتحتم المعالجة الناجعة والمقاومة الدائبة للفلسفات التي تصنع بمكر وخفاء وطول نفس: سرديات صغرى؛ تنال من إنسانية الإنسان ومن سموه وكرامته وحريته ومصيره، وهو ما يجعلنا مُطالبين دومًا بإشاعة سردياتنا الكبرى، وإذابتها في العقول والنفوس والمناهج وجميع مصادر التلقي، والسعي في الوقت ذاته إلى إضمار السرديات الصغرى التافهة والمتفهمة للإنسان الذي خلقه الله وكرمه. ولنتذكر أخيرًا هذه المقولة جيداً: «فعِّل سردياتك الكبرى، قبل أن يفعِّل خصمُك سردياته الكبرى أو الصغرى».
**
- كاتب وباحث سعودي