جانبي فروقة
في عصر تهيمن عليه التكنولوجيا الرقمية باتت الدبلوماسية الرقمية والتسلح الرقمي جزءاً من استراتيجيات الدول وفن الحكم الحديث لتعزيز أجندة الدول الدبلوماسية وتعزيز مصالحها الأمنية الوطنية.
وكمثال فقد لعبت الدبلوماسية الرقمية التي قادها الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون دوراً مهماً في التمهيد للقمة التاريخية بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية عام 2018م حيث انخرط الزعيمان في حرب كلامية على تويتر مما أظهر قوة المنصات والتواصل الاجتماعي كأداة دبلوماسية تسمح للقادة بالتواصل بين بعضهم ومع الجماهير حيث كانت التغريدات هي من يحدد نغمة الأحداث الدبلوماسية ومخاطرها.
وكما نجد اليوم مؤسسات بحثية باتت تعتمد على الذكاء الاصطناعي كمؤسسة راند RAND ومركزها أمريكا التي تستعمل الذكاء الاصطناعي في عمليات محاكاة الدبلوماسية حيث تساعد السياسيين وصناع القرار على تقييم العواقب المحتملة للاستراتيجيات الدبلوماسية المتبعة من خلال توظيف خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تكسب صناع القرار الرؤى الرقمية لنتائج محتملة لمسارات عملهم الدبلوماسي.
توظف الدبلوماسية الرقمية التكنولوجيا في ممارساتها وذلك من خلال المشاركات الفعالة والتفاوض عبر منصات التواصل الاجتماعي إلى عقد المؤتمرات الافتراضية للتأثير في الرأي العام والشؤون العالمية.
وتعكس اليوم المنافسة بين ثالوث القوى الرقمية العالمية: الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا توترات جيوسياسية أوسع نطاقاً ومنها الحرب السيبرانية وحملات التضليل والابتكار التكنولوجي وبات اليوم من الضروري الوصل إلى حالة توازن رقمي عالمي بين هذه الدول. وتحاول الولايات المتحدة الأمريكية ببنيتها وبراعتها التكنولوجية التحتية الراسخة الحفاظ على الهيمنة الرقمية أمام التنين الصيني الذي يتقدم بسرعة في مجال الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس ونرى الصين تستخدم منصتها الخاصة وي تشات لنشر خطابها والتفاعل مع الجمهور العالمي وأما الدب الروسي البارع في القرصنة الإلكترونية ومجال التهكير يحاول دائماً استخدام الأدوات الرقمية في التدخل السيبراني ويستعمل المنصات الرقمية لدعم رواياته والتأثير في الجمهور العالمي.
وكمثال آخر استخدم الدبلوماسيون الصينيون بذكاء إستراتيجية دبلوماسية رقمية قوية عبر منصات وقنوات رقمية مثل تويتر (X حاليا) وفيسبوك وتيك توك للترويج لمبادرة الحزام والطريق الصينية ومشاركة قصص النجاح والتفاعل والتأثير على جماهير دول الحزام والطريق في محاولة لتشكيل تصور عالمي إيجابي لمساعي الصين الاقتصادية وتعزيز علاقاتها الدبلوماسية.
تصاعدت التوترات الجيوسياسية الرقمية في عام 2023م وخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وبرز السباق والتحدي الكبيرين في أسواق أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية وتطوير سلاسل التوريد الخاصة بها لتكون عامودية كاملة من التصميم إلى الإنتاج وزادت أهمية الكابلات البحرية وخاصة بعد انفجار «نورد ستريم» واليوم تعتبر الصين التكنولوجيا أساساً استراتيجياً للتنمية الوطنية وقد أكد على ذلك مراراً الرئيس الصيني شي جين بينغ مبيناً الحاجة إلى الاعتماد على الذات في الصناعة التكنولوجية وهذا التنافس خلق تباعداً وانفصالاً رقمياً متسارعاً عن الولايات المتحدة الأمريكية ولا سيما حول الرقائق والكابلات والبيانات والذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية.
في العقود الأخيرة رأينا كيف تؤدي الرقمنة إلى توزيع جديد للقوة الاقتصادية والمجتمعية فعلى سبيل المثال نجد اليوم أن القيمة السوقية لشركة أبل الأمريكية مثلاً تربو على الـ2 تريليون دولار أمريكي ومماثلة تقريباً للناتج القومي الإجمالي لقارة إفريقيا مجتمعة.
في خضم الصراعات والأزمات الدولية يبرز التسلح الرقمي كساحة معركة جديدة أيضاً وفيه يتم استخدام القدرات السيبرانية في عالم الفضاء الإلكتروني لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية ويعتبر فيروس ستوكسنت Stuxnet عام 2010م هو أول سلاح رقمي تم استخدامه ضد الدول وكان عبارة عن دودة كمبيوتر متطورة تم تطويرها بشكل مشترك بين أمريكا وإسرائيل لاستهداف وتخريب البرنامج النووي الإيراني وقد ألحق أضراراً بمنشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية وعطل البنية التحتية وكمثال آخر نجد هجوم برنامج الفدية عام 2017م NotPetya Ransomware والذي تم نسبه إلى روسيا وقد تسبب بأضرار اقتصادية وخسائر مالية كبيرة فشركة ميرسك للملاحة وحدها خسرت 300 مليون دولار وقدرت الخسائر الإجمالية بأكثر من 10 مليارات دولار وكما نرى قرصنة خط الأنابيب كولونيال عام 2021 م في أمريكا والذي تم عن طريق مجموعة من القراصنة المعروفة ب DarkSide وتعطلت بسببه إمدادات الوقود في الساحل الشرقي الأمريكي وتسبب بأضرار اقتصادية كبيرة. ومن المتوقع أن يزداد الإنفاق العالمي على الأمن السيبراني في عام 2024م ليصل إلى 215 مليار دولار أمريكي حسب توقعات شركة غارتنز انك حيث يقدر الإنفاق في عام 2023 م ب 188 مليار دولار.
يحمل مستقبل الدبلوماسية الرقمية والتسلح الرقمي وعوداً وتحديات كبيرة وخاصة في السباق الجديد في مجال تطوير الحوسبة الكمية وإدماج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي (AI) في الإستراتيجيات الدبلوماسية والعسكرية الرقمية لتحليل البيانات الهائلة والتنبؤ بالصراعات المحتملة وإدارتها وتحسين آليات صنع القرار وتعزيز الأمن السيبراني.
مع تزايد تعقد المشهد الرقمي تبرز ضرورة وضع تشريعات واتفاقيات دولية لتنظيم السلوك الرقمي والحدود الرقمية والسيبرانية وتحديد قواعد الاشتباك في الفضاء الإلكتروني ومن أهم المهارات التي سيحتاجها ساسة المستقبل هي تطوير مهارة إدارة الدولة الرقمية بكافة الاتجاهات السياسية والاقتصادية.
**
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية