د.نادية هناوي
بغض النظر عن الأزمة التي عاشتها الرواية الواقعية في القرن العشرين، فإن ذلك لا يغير من حقيقة أن الغرب ورث تقاليد السرد من الشرق وساهم في تطويرها. ولم يكن لأدباء أوروبا وكتّابها في حدود القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أية عقدة. ومن هؤلاء الكتّاب جوزيف كونراد الذي ألف روايته( قلب الظلام) عام 1899 وقالب الرواية كان واضحا ومجنسا كفن جديد يناسب العصر الحديث. ومثل (قلب الظلام) في حجمها القصير وشخصياتها المحددة كثير. وعلى الرغم من ذلك، فإن نقاد القرن العشرين عدوا هذه الرواية شهرزاد الغرب مدللين على العقدة الاستشراقية التي أصابتهم، وبها أرادوا توكيد أن لهم من السرد ما يضاهي السرد الشرقي لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن قالب الرواية سار على تقاليد السرد القديم، ومن خلالها ابتدع جديدا بعد أن أجرى على القديم بعض التغييرات. ومن التقاليد التي عليها سار هذا السرد، القارئ الذي يخاطبه السارد مباشرا( أتتطلعون على الكتابة. أتشاهدون شيئا ما؟ يبدو لي وكأنني أحدثكم عن حلم محاولا القيام بعمل فاشل) أو قوله:( أقول بأني بدأت أضايقكم) ومن التقاليد أيضا الفصل والوصل الذي فيه يتعمد السارد تذكير المتلقين بما سلف من أحداث( عدت كما تذكرون إلى لندن بعد اجتياز المحيط الهندي والمحيط الهادئ وبحار الصين وجرعات مستقرة من الشرق.)
ويشارك السارد ذاتي في الأحداث واسمه مارلو ويعمل بحارا وهو العمل نفسه الذي مارسه كونراد في مقتبل حياته فعانى كثيرا من حياة البحر القاسية وشاهد بأم عينيه ما يجري من عمليات نهب العاج من إفريقيا باستعمال القوة العسكرية وكان واحدا من أولئك المستحوذين على خيرات الشعوب الفقيرة( لقد كانوا غزاة وعندما تكون غازيا فان ما تحتاجه هو القوة الهمجية فقط وما من داع للتباهي أو التفاخر عندما نملكها ونحصل عليها من حادث مفاجئ قد انبثق من ضعف الآخرين لقد سلبوا بالقوة..لقد كان سلبا مفعما بالقوة وقد استبد الأمر لينتهي إلى جريمة بلا حدود وقد تقبلها الناس بالعمى دون أن يبصروها كمن يكون مناسبا للذين يحبذون التعامل في الظلام.
إن احتلال الأرض الذي يعني غالبا سلبها من أولئك الذين يختلفون عنا في البشرة أو الذين يملكون أنوفا أكثر انبساطا من أنوفنا) ولا يتوقف أمر الاستعمار عند حدود النهب المادي بحجة شركات تجارية يدرها رجال بيض ويعمل فيها زنوج يشحنون العاج بل يتعداه إلى ممارسة دور روحي مزيف به يظهر المستعمرون أنفسهم بمظهر سماوي رسالي. وهذا التمويه عبرت الرواية عنه من خلال شخصية كورتز و( الشر المتواري في ظلام قلبه العميق) كقوله:( لقد كنت أتجول بلا هدف وأزعجكم أثناء عملكم وأسبب لكم التأخير وقمت باجتياز منزلكم وذلك لأنني كنت أحمل رسالة سماوية لجعلكم أناسا متحضرين ..أقول لكم الآن...)
وذهب إدوارد سعيد إلى أن هذه الرواية توضح الموقف الامبريالي للروائي بدليل أن مالرو وكورتز رجلان أبيضان، وفسر نهاية الرواية بأن مالرو هو قلب الظلام الذي مع وصول الحكاية إلى نهايتها يكون هو قد عاد إلى الظهور في انكلترة وأن الظلام الدائم الوجود هو قابل لأن يستعمر أيضا. وفي هذا الرأي أكثر من إشكالية؛ أولا لأن السارد يقدم وجهة نظر ايديولوجية فيها مالرو يرفض استعمارية كورتز، فحين كتب كورتز تقريره الذي كلفته به الجمعية العالمية لإلغاء العادات المتوحشة، وبدأه بالقول: ( نحن البيض وانطلاقا من نقطة النمو والتطور التي وصلنا إليها يتحتم علينا الظهور أمامهم ككائنات خارقة للطبيعة وأن نتقرب إليهم عبر قدرة تقسم بقدرة الله) عقب السارد مالرو بالقول: ( كان أسلوبه جيدا يتسم بالبلاغة ولكنه انفعالي الطابع على ما اعتقد.. وكتب تقريره المطول هذا قبل أن يصاب بالانهيار العصبي.. غير أن الفقرة التمهيدية أذهلتني بالفعل لكونها تنطوي على كلمات تنذر بالشؤم ) وثانيا أن مفردات مثل (الانفعال/ الانهيار / الذهول/ الشؤم / النذر) ليست عابرة، بل هي مقصودة وتعبر عن موقف يستشرف مآلات الاستعمار الاستيطاني مستقبلا، وثالثا أن هذه القصدية تلتقي مع ختام الرواية الذي ساقه كونراد بأسلوب استعاري شعري،( المجرى المائي الهادئ يتدفق نحو أقاصي الأرض ليتدفق بلونه المعتم تحت سماء داكنة بدا وكأنه يمضي إلى قلب ظلام هائل).وهذا الاسلوب هو تركة من تركات السرد العربي القديم إذ لا تكاد تخلو أية حكاية او قصة عربية من الاستعارات الشعرية. وليس قصد كونراد التزويق اللفظي بقدر الترميز لمصائر الشعوب المستعمَرة وما ينتظرها من استغلال بشع بسبب رواج تجارة العاج وجشع العنصر الأبيض.