حامد أحمد الشريف
لم يكن مستغرَبًا حديث الأستاذ سمير السيّد عن التنمُّر الذي واجهه عند تقديمه كتابه الجديد «فلسفة الأنمي»، الذي يعني به «فلسفة الرسوم المتحرّكة»، فالحديث عن أفلام الكرتون، في ظنّهم، يعدُّ طفوليًّا إلى حدٍّ بعيد؛ بينما كانت نظرةُ مبدعِنا الجميل في إصداره صحيحةً، عندما استخلصَ من بعض الأفلام الكرتونيّة الشهيرة أبعادًا رمزيّة، وصنع منها محتوًى نقديًّا فلسفيًّا، فهي، وإن كانت تستهدف الصغار، أغرتِ الجميع بمتابعتها، وبرهنت على أهمّيّتها، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «كنّا نظنّ واهمين أنّها مجرد رسوم متحرّكة موجهة للأطفال فقط؛ ولكن عندما كبرْت أصابَتْني الدهشة إذ أدركْت أنّ هذه المسلسلات على الأقلّ في جزء كبير منها مستوحاة من روايات وقصص عالميّة ليست بالضرورة مناسبة للأطفال فقط».
ما قاله السيّد واقعيٌّ، فالأعمال التي تمّ اختيارها وتوظيفها كنماذج لِما كان يقدَّم في ثمانينيّات القرن الماضي، كانت مأخوذةً بالفعل من أعمال عالميّة، كرواية «المدّ الهادئ» للروائي الأمريكي ألكسندر هيل، وكان من الطبيعيّ تنبُّهنا لقيمتها الفلسفيّة والفكريّة في مرحلة الوعي التي عبّر عنها الكاتب بقوله: «عندما أعدت مشاهدة بعض من هذه المسلسلات كعدنان ولينا وجزيرة الكنز وأنا في مرحلة الوعي وجدت أنّها تحمل أبعادًا فلسفيّة ورمزيّة وقِيَميّة ربّما لم يفطن لها أغلب من أُعجبوا وتعلّقوا بتلك المسلسلات».
لقد اِعتُمدَ في تبويب هذا المصنّف على الأعمال التي تناولها، وكانت خمسة مسلسلات كرتونيّة، عرّج قبلها على موضوعَيْن أراد من خلالهما تجهيز القارئ واستحضاره معه في رحلته الممتعة، لتشريحهما ودراستهما، وهما: فلسفة الفنّ، والمجتمع، محاولًا تكريس الفلسفة التي يؤمن بها، وتتعلّق بارتباط الإنسان في حياته وفنونه بمجتمعه. وقد صرّح بذلك في قوله: «أنتمي للمدرسة الاجتماعيّة في تفسير الإبداع الفنّي، والتي ترى الفنّ هو انعكاس وتعبير عن الحالة النفسيّة والاجتماعيّة للمجتمعات.» انتهى كلامه. تطرّق بعدها إلى «الفلسفة والرواية»، مستشهدًا بمقولة رائعة للروائي الكبير «ألبير كامو»، قال فيها: «الروائي العظيم فيلسوف عظيم». وكان محور حديثه في هذا الباب يدور في فلك عمق الكتابة الروائيّة الإبداعيّة، وبُعدها عن السطحيّة الساذجة، وتمحوُر المجتمعات حولها؛ وهو محقٌّ في ذلك، فالأعمال الروائيّة الإبداعيّة تشكِّل مفترقَ طُرُق لمجتمعاتها، وربّما تؤسّس لتوجُّهاتها وفلسفاتها، أو، كما قال: «إنّها تطبيقٌ لتجريد، فمهما كانت الرواية مبسّطة وسهلة الفهم فإنّها لا تخلو أبدًا من جانبٍ فلسفيّ علينا كشفه».
ولعلّ أجمل ما قيل في هذا الباب، وصفُه لعلاقة الرواية بالفلسفة، وتشبيهُها بعلاقة الرياضيّات بالفيزياء، في قوله: «الفلسفة كالرياضيّات تجريد، والرواية كالرياضيّات تطبيق، فالإنسان في الفلسفة إنسان عامّ، قيمة مجهولة مثل (س) في الرياضيّات، بينما في الرواية هو شخص بملامح إنسانيّة مكتملة، له اسم وجسم، إنّه يشبهنا..»
تستوقفنا أيضًا فلسفة الكاتب عن المكان، في مسلسل «عدنان ولينا»، حيث يقول: «فالبشريّة حتّى كتابة الرواية سنة 1970م عاشت في ثلاثة أنماط حضاريّة فقط، النمط البدائي وهَمّ مجتمع الصيد وجمع الثمار (يمثّله عدنان والجزيرة المفقودة)، والنمط الزراعي الذي بدأ فيه تاريخ الإنسان الفعلي قبل سبعة آلاف سنة تقريبًا (تمثّله في المسلسل أرض الأمل وأهلها)، والنمط الصناعي». وفي ذلك قراءة جميلة لأبعاد العمل المكانيّة، والقدرة على تخطّي الصورة السطحيّة للحكاية. وكان الكاتب مقنعًا في استخلاصه للأمكنة الثلاثة، فالسيميائيّات التي دلّت عليها يمكن الاعتماد عليها في الفهم؛ فهناك بالفعل ثلاثة أمكنة تختلف في مواصفاتها وتشبه الأنماط الحضاريّة التي أشار إليها، وهي مقارَبة وظّفها للدلالة على القيمة الفلسفيّة للعمل، وتُعتبَر ضمن الشواهد التي تمّ الاعتماد عليها في رحلة الربط بين الفلسفة والسرد، أو لنقل، بين الفلسفة والأعمال الدراميّة، ونجحت في صنع هذه العلاقة والبرهنة على وجودها. ولم يكن المكان وحده هو ميدان هذه العلاقة، إذ امتدّت لتشمل عدّة عوامل أخرى، من بينها الصراع السرديّ الروائيّ الذي وضعه الكاتب في الحضارة الصناعيّة، متمثّلًا في صراع الدكتور رامي للقبول بالحضارة الصناعيّة بشروطها الأخلاقيّة، ورفضه لها بدون تلك الشروط.
في موت الدكتور رامي ذهب المؤلِّف باتّجاه استخلاص فكرة تعود لأينشتاين، وتتلخّص في غياب الثورة الصناعيّة وعودة الإنسان في آخر الزمن للحياة البدائيّة، اعتمادًا على ظهور رمح عدنان وقدمَيْه الحافيتَيْن، معتبرًا أنّ موتَ الدكتور وتسليمَه الراية لعدنان وقتَ احتضاره يرمزُ إلى هذا المعنى. ورغم جمال هذه المقاربة وقناعتي الشخصيّة بها، إلّا أنّني لا أؤيّد نسبتَها إلى أينشتاين فقط، إذ إنّها حقيقةٌ نؤمن بها نحن المسلمين، كونها وردت في حديثِ آخر الزمن الذي رواه أبي هريرة، رضي الله عنه، وقال فيه أنَّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: «لا تقوم الساعة حتّى تنزل الروم بالأعماق - أو بدابِقَ، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلّوا بيننا وبين الذين سُبُوا مِنَّا نقاتلْهم، فيقول المسلمون: لا والله، كيف نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم؟ فينهزم ثُلُثٌ ولا يتوب الله عليهم أبدا، ويُقتَل ثلثُهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يُفتَنون أبدا، فيفتَتحِون قسطنطينيّة، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد عَلَّقوا سُيوفَهُم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ قد خَلَفَكم في أهاليكم، فيخرجون، -وذلك باطل- فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينا هم يُعِدِّون القتال، يُسَوُّون صفوفَهم، إذا أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم، فأمَّهم، فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده -يعني المسيح - فيريهم دَمه في حربته». أخرجه مسلم.
في هذا العمل الجميل كان مهمًّا التوقُّف عند الفروقات بين العمل الدرامي الكرتوني والرواية الأصل، إذ إنّ أغلب الروايات تفقد جزءًا من قيمتها بعد تحوّلها إلى عملٍ دراميّ يتحكّم فيه مخرج العمل، ويُظهر فلسفته وأفكاره هو، فضلًا عن غياب ذكاء التلقّي والخيال الواسع الذي نجده في الرواية، وهو ما رصده الكاتب هنا؛ لكنّه كان محقًّا في اكتشافه أنّ هذه المعادلة أصبحت معكوسة، فالمسلسل يُعَدّ بكلّ المقاييس أفضل من النصّ المقروء؛ وأورد ما يؤيِّد وجهة نظره تلك، بحديثه عن الفروقات بين النصّ المسرود والأحداث المصوَّرة، مدعِّمًا حديثه بالشواهد المقنعة. ولعلّ الأجملَ بيانُه لأسباب نجاح النسخة العربيّة من هذه المسلسلات، حين حظيت بترجمةِ نخبةٍ من المترجمين الأشاوس، وأصوات فنّانين عالميّين كوحيد جلال وجهاد الأطرش. وكانت - للحقّ - نسخ المسلسلات العربيّة الفصيحة التي أُنتجت وقتها في لبنان، غايةً في الإتقان والروعة.
في الواقع لم تفارقني البسمة وأنا أقرأ باندفاع الجزء المتعلِّق بمسلسل «جزيرة الكنز»، وساورني شعورٌ أنّ المؤلَّف، أثناء تدوينه لمسودّة هذا الكتاب، قضى وقته مسترخيًا ينظر إلى السماء، وهو مستلقٍ على ظهر إحدى سفن القراصنة. فهو يكتب بمتعةٍ عجيبة، ويتنقّل في تحليله بين الكتب وعروض المشاهدة، بأسلوبه الفلسفيّ، كما في حديثه الممتع عن قراصنة الكاريبي، وبيانه للعلاقة بين التاج البريطاني وهؤلاء القراصنة الإنجليز، وإظهاره الدور الذي لعبوه في محاربة الأسطول الإسبانيّ بالوكالة ... بدا المؤلِّف صادقًا وهو يستحضر التاريخ، ويعود للرواية الأمّ، ويستشهد بحوارات المسلسل، ففتننا بمقدرته على توظيف الفلسفة للحديث عن عملٍ إبداعيٍّ مميّز.
لعلّ الجميل أيضًا في هذا الكتاب، تلك البساطة الإبداعيّة التي يتحدّث فيها عن التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في أوروبا التي شكلت الفضاء الزمكاني للمسلسل وللرواية، وحديثه أيضًا عن الاقتصاد الإنجليزي خلال الفترة الممتدّة بين العامين 1660 و 1702م.، وتوقّفه عند أسباب انتشار مهنة القرصنة كعمل ترعاه الدولة، وإن بطريقة غير مباشرة، للاستفادة من عمالة الفقراء المقذوفين في الشوارع، باستخدامهم في سفن القراصنة بأجر بخس… لقد كان حديثه رائعًا ومثريًا ومشوِّقًا، حمل بُعدًا تثقيفيًّا إلى جانب كونه نقدًا أدبيًّا.
كما يبهرنا تناوله لشخصيّة «سيلفر» البطل الحقيقي لتلك الملحمة الإبداعيّة - وليس الفتى الصغير «جيم» كما ظهر في المسلسل - من عدّة زوايا مهمّة، كربطه الجميل بين المستعمَرة والمستعمِرة، في وصفه للعلاقة بين بريطانيا والهند، من خلال سيلفر وزوجته، ودلالات هذا الاختيار. وكذلك تحليله لشخصيّة «سيلفر» وعلاقتها بروّاد الفلسفة في زمن كتابة الرواية، على ضوء بعض الحوارات التي كانت تدور بين جيم وسيلفر وتحمل هذا البُعد الفلسفي العميق جدًّا، والذي تمّ تقديمه بطريقة أكثر من رائعة، أكان كتابةً في الرواية أم تجسيدًا في المسلسل الأنمي مدبلجًا في النسخة العربيّة، بحيث أنّ عوامل الإبداع تكاملت في صنع هذا العمل الخالد، وأتى الكتاب ليقدّمها في طبَقٍ شهيّ يَسْهل هضمه في ثوانٍ.
ورغم إعجابي بشخصيّة «غراي» الصامت الذي يظلّ يلعب بسكّينه وهو ينظر إلى الأرض ولا يتحدّث إلّا لمامًا، إلّا أنّني فُتنت أكثر به بعد تناول الكتاب لشخصيّته بطريقة فلسفيّة، في إشارته إلى الفلسفة الروحيّة اليابانيّة التي لم يُظهرها المؤلِّف الروائي المُغرق في المادّيّات من خلال شخصيّة «سيلفر» وباقي المتهافتين على الكنز، وأراد اليابانيّون، من خلال شخصيّة «غراي» الجميلة، إظهار هذا الجانب الروحاني، بعدم انكبابه كالآخرين على المال، وتبرّعه بنصيبه كاملًا لأهل قريته الإيرلنديّة. إنّ هذه التفاصيل الصغيرة في تركيب الشخصيّات وحضورها واتّصالها بعصب العمل المسرود والمشاهَد إنّما تشير - كما أسلفت - إلى قيمة الفلسفة وقدرتها على اقتحام عالم النقد باحترافيّة عالية، بتفكيك المشاهد وتحليلها، وفهم أبعادها السلوكيّة والنفسيّة، وهو ما يشبه تمامًا عمل النقد الإبداعي، أو لنقل، النقد الحديث ما بعد البنائيّة والأسلوبيّة.
في المقاربة التي أتى بها الكتاب لبيان العلاقة الداروينيّة التي أظهرتها شخصيّة «سيلفر» العجيبة، ظهر جمال الفلسفة واهتمامها الكبير بمحاولة فهم الأقوال والأفعال، وإعادة إنتاجها بالطريقة التي تُظهر مغازيها الخفيّة. وكانت بعض تصرّفات «سيلفر» بالفعل غير واضحة، أو أنّها تختبئ خلف شخصيّته المبهرة وحضوره الطاغي، لكنّها لم تفت كاتبنا الذي أعاد إظهارها مستشهدًا عليها بأقوال البطل وتصرّفاته المرصودة؛ ما أضاف جماليّة إلى العمل، فهذه الملحمة السرديّة الدراميّة فضحت سلوكيّات الأوروبيّين في تلك الحقبة المهمّة.
ولعلّنا الآن نتساءل إن كانت شخصيّة «سيلفر» تستحقّ كلّ هذه التوقّفات التي أتى بها المؤلِّف، وهو يٌبحر بعيدًا في شخصيّته المركّبة ويُظهر الفلسفات التي يؤمن بها، ويبديها في حواراته الرائعة مع «جيم»، كاعتناقه فلسفة ألبير كامو وشوبينهاور العبثيّة التشاؤميّة التي تتجلّى في حديثه عن الشمس، وكذلك تصريحه الفجّ لـ»جيم»، بعد تمرُّد القراصنة عليه، بعدم إيمانه بقوانين البشر. في ظنّي، إنّها تستحقّ كلّ هذا الاهتمام.
وكانت وقفاتُ الكاتب وانتقاؤه لعددٍ من حوارات «سيلفر» وتسليطُه الضوء عليها غايةً في الروعة، من حيث جمعُه بين جماليّةِ الكتابة الأدبيّة وعمقِها الفلسفيّ، وقدرتُه على الغوص في معانيها ودلالاتِها وربطِها ببعض الفلسفات التي تشير إليها. ولعلّ أجمل تلك الاستشهادات إيراده حوارَ كوب القهوة مع «جيم»، وهو حوارٌ فلسفيٌّ غايةً في الجمال، حتّى أنّ المؤلِّف لم يعلِّق عليه، وإنّما أشار في نهايته فقط إلى قيمة هذا الحوار بقوله: «لقد مثّلَث شخصيّة جون سيلفر بحقّ الحالة الفكريّة القلقة لأوروبّا كلِّها في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي».
في الحديث عن مسلسل «السندباد»، لقد أسنده إلى المُؤلَّف العربي الشهير «ألف ليلة وليلة»، مظهرًا قيمته الحكائيّة بنقله مقولة «فولتير» الشهيرة عنه: «لم أصبح قاصًّا إلّا بعد أن قرأت قصص ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرّة.» وذلك قبل أن يعود لنهجه السابق في فكفكة الدراما والسرد، ويغوص في ثناياهما مستخلصًا مراميهما وأهدافهما، مبتدئًا بالحديث عن الاختلافات المرصودة بين المؤلَّف والعمل الدرامي في جمعه بين حكايات لم تكن مجتمعة على الإطلاق، كصداقة علاء الدين مع سندباد الذي أضيفت حكايته لاحقًا إلى حكايات «ألف ليلة وليلة» ولم تكن، بطبيعة الحال، ضمن نسخته القديمة، إذ يفصل بينهما قرابة القرنين من الزمن. وكل ذلك يشكّل جانبًا إثرائيًّا غايةً في الأهمّيّة، يحتاجه متصفّح الكتاب، رغم ابتعاده عن الفلسفة، وهو ما ظهر أيضًا في حديثه عن «شخصيّة سندباد بين الحقيقة والخيال»، وكذلك عن «زمن القصّة».
ولعلّ أهمّ ما توقّف عنده المؤلِّف هو الصراع الذي بُني عليه المسلسل، وذكَرَ أنّه في معظمه صراعٌ دينيٌّ بين التوحيد وكافّة المعتقدات القديمة التي سبقت الإسلام، وقد استلّه من مجمل الحكايات القديمة التي بدا أنّ هدفها تسلية الصغار، بينما أظهرت زاويتُه الفلسفيّة العميقة الخيطَ الرفيع الذي يربط بين مجمل الأحداث في كامل حلقات المسلسل، ويُظهر دسامتها وعمقها المثري. وكانت السيميائيّات التي رصدها ووظّفها لدعم فلسفته مقنعة، رغم أنّ المسلسل مال كثيرًا نحو المباشرة والسطحيّة ولم يكن أبدًا في مستوى باقي الأعمال الدراميّة المشتقّة من رواياتٍ عالميّة حديثة. ولعلّ أجمل ما قاله في حديثه عن الصراع الذي قام عليه المسلسل، نظريَّةُ العناصر الأربعة التي - حسب وصفه - انطلقت من اعتقاد «طاليس» أنّ أصل الكون هو الماء، وانتهت بـ»أمبيدوكليس» الذي أضاف إليها الهواء والتراب والنار، واعتمدها من بعده أرسطو، وبقيت من أهمّ النظريّات التي تفسِّر أصل الكون حتّى القرن السابع عشر، تاريخ ظهور النهضة الصناعيّة والكشف عن مكوِّنات المادَّة وباقي التفاصيل العلميّة المعروفة.
والشاهد هنا، أنّ المؤلِّف استطاع بمهارةٍ كبيرة الجمْع بين الحكاية التخيُّليّة والأفكار الفلسفيّة بمنطوقها وتاريخها، ودَمْجها مع الحقائق والنظريّات العلميّة، في مساحاتٍ سرديّةٍ صغيرة لا يتسرّب إليها الملل، متجاوزًا معضلة الفلسفة التي يغلب عليها التشتُّت والإسهاب المملّ.
وكلّ ذلك بالطبع لا يجعلنا نُغفل الحديث غير المستساغ عن محاولة الأمويّين فتح القسطنطينيّة، ووصفها بالعبثيّة، وتجاهل المحفِّز الكبير لفتحها، اعتمادًا على وصف الرسول - صلى ا لله عليه وسلّم - للأمير الذي ينجح في هذه المَهمّة شبه المستحيلة، بأنّه خير أمير. ورغم أنَّ البعض قد ضعَّف الحديث، إلّا أنّها في كلّ أحوالها تعَدُّ مغنمًا كبيرًا كونها أهمّ حواضر العالم القديم، ما يعني أنّها هدفٌ إستراتيجيٌّ مهمّ لأيِّ دولةٍ ناشئة تريد توسيع حدودها وفرض سيطرتها، وهو ما تحقّق بالفعل مع السلطان العثماني محمّد الفاتح. قد يُعيب هذا العمل إيراده بعض الأفكار المغلوطة والتسليم بصحّتها من دون ذكر مرجعٍ تاريخيّ يدلّ عليها، كما في حديثه عن الحقبة العبّاسية والعلاقة التي أقامتها مع إفريقيا والفرنجة، علمًا أنّ الخلافة الإسلاميّة، في كلّ عصورها المتوالية، جمعت بين القوّة والتسامح عند نشرها الإسلام وفتح الأراضي الجديدة بحدّ السيف، وكان سلامهم مع من ينضوي تحت لوائهم ويُقبل بشروطهم، كدفع الجزية أو الدخول في الإسلام.
وبعد، فإنّ مسلسل «السندباد» لم ينل النصيب نفسه الذي نالته «جزيرة الكنز» من الحديث الفلسفيّ العميق، ولست لائمًا المؤلِّف على ذلك، فالمسلسل لا يمكن بحال مقارنته بـ»جزيرة الكنز» التي نُقلت عن رواية عالميّة لا تزال تحتفظ بقيمتها حتّى وقتنا الراهن؛ فهو قد اجتهد في محاولته استنطاقه فلسفيًّا من خلال الحديث عن أبطاله الثلاثة: سندباد وعلاء الدين وعلي بابا، ووصْفِ شخصيّة كلٍّ منهم، واتّخاذِها سبيلًا للحديث عن أنماط الحياة ودلالات هذه الشخصيّات، لكنّها، بشيءٍ من الصدق، لم تكن مقنعة، فالمسلسل كان أقلّ من أن يحمل هذه السمات الفلسفيّة، وغاية ما كان يهدف إليه هو المباشَرة التي نجدها في الحكايات القديمة، وذهابه باتّجاه نقل بعض الأفكار والتوجُّهات، وحتّى الوعظيّات، بطريقةٍ سطحيّةٍ لا عمق فيها.
عند انتقال الكاتب للحديث عن مسلسل «غريندايزر» عاد البُعد الفلسفيّ للتوهُّج من جديد، من خلال المضامين الفلسفيّة والفكريّة التي تناولها المؤلِّف بطريقة مختصَرة في الفصل المعنون «رسائل المسلسل وأهدافه»، وكان قد تناول القِيَم والعواطف الإنسانيّة التي تضمّنها، وعرّج على الأوطان وحبِّها، وأظهر الصراع الحركيّ الذي حفل به، ووقف على مغازي العمل الرائعة، كانتقاد الكتاب لمعاهدة السلام المذلّة التي وقّعها اليابانيّون مع أمريكا بعد إلقاء قنبلتَي هيروشيما ونجازاكي، وكذلك فضحه السوء الذي غالبًا ما يحمله المستعمِر لكلّ الأراضي التي يحتلُّها، مستحضرًا الشواهد الدالّة عليها بحديثه عن الكواكب التي احتلّها «فيغا» ودمّرها؛ وفي ذلك رمزيّة جميلة بالفعل يمكن سحبها على كلّ الدول المستعمرَة التي دمّرها المستعمِر وأكلَ خيراتِها. وللحقّ، فإن هذا المسلسل صنع الشخصيّات بطريقة رائعة تضاهي شخصيّات «جزيرة الكنز»، من خلال التنوّع بين «دوكفليد» و»هيكارو» و»دامبي» و»كوجي»، عدا عن ملك الشرّ «فيغا» الذي قاد الهجوم الاستعماريّ على الأرض.
ومن تلك الفلسفات اللافتة تطرّقُه إلى كثرة الأسلحة التي استخدمها «غريندايزر» وتنوّعِها، وربطُها بالحالة التي تعيشها اليابان بعد استسلامها لأمريكا، وتخلّيها عن الصدارة الناريّة التي رافقتها زمنًا ليس بقصير، حين كانت تمتلك الأسطول الجوّي والبحري الأقوى في العالم، وهو ما عبّرَ عنه المؤلِّف بقوله: «إنّ أسلحة الغريندايزر ما هي إلّا رسالة احتجاجيّة من مؤلِّف العمل على تخلّي اليابان عن برامج التسلُّح واستسلامها للغرب بدون شروط.» كذلك لا يمكننا تجاوز الحديث القيِّم عن شخصيَّة القائد «زوريل» الذي بيّن المؤلِّفُ تفاصيلَ عن حنكته العسكريّة، من ذلك، نقلُه لتلك العبارة الجزلة التي استحقّت بالفعل الاستشهاد بها للدلالة على القيمة الفلسفيّة والفكريّة التي حملتها هذه المسلسلات، وقال فيها: «الحرب لا تشتعل بالسلاح فقط، بل بالتسلُّل إلى أرض العدوّ وإيقاعهم في الفوضى والخديعة والحيلة!!!» واستعراضُه أيضًا الجانب الأبويّ الذي تمثَّل في علاقته بابنه التي أظهرت تراكبَ شخصيّته وعمقَها الكبير.
لقد كان حديث المؤلِّف أيضًا عن نبل شخصيّة «دوكفليد»، وقراره التضحية بالأرض ومَن عليها في سبيل إنقاذ صديقه «كوجي»، جميلًا يستحقّ بالفعل التوقُّف عنده والحديث عنه، فشخصيّة «ديسكي» أو «دوكفليد» بدت رائعة من كلّ جوانبها، حيث القوّة تتمثّل في الحقّ، والتواضع الجمّ، والقرب من الجميع، وممارسة حياته بطريقة أكثر من طبيعيّة، قبل ارتدائه بزّته العسكريّة وذهابه للقتال؛ وفي ذلك بالتأكيد مغازٍ عميقة، وفلسفاتٌ إنسانيّة رائعة، أظهرها العمل وتحدّث عنها المؤلِّف، وأظنّها غُرست في أذهاننا ونحن صغارًا، وتأثّرت بها سلوكيّاتُنا دون أن نشعر، وهذه تُعتبَر قيمة حقيقيّة حملها المسلسل ونهض بها على أكمل وجه.
وكان كلّ ما كُتب عن المعركة ببن «دوكفليد» و»غوس» غايةً في الجمال، بالأخصّ مشهد موته الذي يعدُّ من أجمل المشاهد. ولعلّي أقول، إن كان «غوس» محبًّا للأزهار والموسيقى، ويعيش الحياة الشاعريّة، وفُرِضَ عليه الق تال، فإنّ مؤلِّفَنا فيلسوفٌ يعشق قراءة ما وراء المشاهد والأحداث والكلمات. لذا، لم يكن مستغربًا إسهابُه في الحديث عن حكاية المستذئب «غوس» وتناولُه لها من كلّ الزوايا الإبداعيّة. بينما لم يكن الأمر كذلك في حديثه عن غياب الأمّ، رغم حضور المرأة ومقارعتها الرجل في معظم أجزاء المسلسل، ومحاولة تأويل ذلك والذهاب به باتّجاه المجتمع الياباني الذي لربّما كان بالفعل يُعلي من شأن الأب في مقابل الأمّ؛ إلّا أنّه قد يكون أمرًا عرضيًّا غيرَ مقصود، اقتضته الحكاية، ولا علاقة له مطلقًا بهذا التوقُّع.
آخر ما تناوله الكتاب كان مسلسل «توم وجيري» الشهير الذي لم نكن نرى فيه غيرَ مشاهد القتال غير المتكافئ التي تدعو للضحك، بينما أظهرَ لنا المؤلِّف أنّ له أبعادًا فلسفيّة عميقة تتّصل بتقنيّة الضحك نفسه، وقد وصفها بتبادل الأدوار المخالِف للواقع المعتاد، وشبّهها بالتقنيّة المستخدَمة في مسرحيّة «مدرسة المشاغبين»، عندما يعاقِب الطلّابُ معلّميهم، وليس العكس، وكذلك انتصار الفأر على القطّ؛ وأجد أنّها فلسفة مقبولة وتشير بالفعل لذلك السبب الذي جعل من هذَيْن العملَيْن مشروعًا تاريخيًّا للضحك لم يتوقّف إعجابنا به. ولقد لفتني بدرجة أكبر الحديث عن المسلسل من زاويتَيْن أُخريَيْن غاية في الأهمّيّة، تتعلّقان بكونه الوحيد الذي لا بداية له ولا نهاية، وأنّه مجرّد مواقف مختلفة تصوِّر الصراع القائم بين الضعيف والقوي، وما يصاحبه من عنفٍ مبالَغ فيه يعكس الثقافة الأمريكيّة العنيفة التي جسّدتها محاولة استئصالهم للهنود الحمر، وممارساتهم الحربيّة المتجاوِزة التي دوَّنها التاريخ؛ ذلك ما قاله الكتاب للمقارنة بين الثقافة اليابانيّة والثقافة الأمريكيّة. وأجد أنّني أنسجم تمامًا مع هذا التأويل الفلسفيّ، فعنف الإنمي الياباني كان مبرَّرًا بالفعل، ويُظهر صراع قِوى الخير والشر وانتصار الخير، بينما أظهر الأنمي الأمريكي انتصار صاحب النفوذ والعقل بعيدًا عن القيم، وهي الفلسفة التي أشار إليها المؤلِّف بكلّ وضوح، ووصفها بفلسفة القوّة، وكان «سيلفر» قد صرّح بها لـ»جيم» عندما أخبره أنّ البقاء للقوّة والعقل ولا علاقة لذلك بالقيم والأخلاق؛ وهو ما أظهره بالفعل مسلسل «توم وجيري» حين كان «توم» ينتصر غالبًا رغم إقامته بطريقة غير شرعيّة في المنزل وسرقته الطعام، مقابل «جيري» الخيِّر الذي كان يدافع عن المنزل وصاحبته؛ وهي المقاربة الحقيقيّة لفلسفة الغرب الرأسماليّة التي لا تُقيم وزنًا للقِيَم، وتَمضي خلف مصالحها.
في النهاية، أجد أنّني أتماهى تمامًا مع ما ذهب إليه الكتاب من أنّ الفلسفة التي قامت عليها هذه المسلسلات لم تكن عبثيّة، ولعبَت الدور نفسه الذي تلعبه سينما هوليود الأمريكيّة التي لا يمكن فصلها عن المشروع الاستعماري الأمريكي؛ ما يجعلنا نقول، إنّ قيمة هذا العمل الكتابيّ الجميل تكمن في هذه الزاوية المهمّة التي تُظهر الأساليب الخفيّة المستخدَمة لتشكيل ثقافة الطفل بطريقة غير مباشرة من خلال أفلام الأنمي وما تحتويه من فلسفات تستقرّ في العقل الباطن وتَظهر على هيئةِ سلوكٍ لاحقًا، وهو ما يبرهن على أنّ الفيلسوف لا ينفصل عن واقعه كما يَعتقد كثيرون، بل قد يكون مَنْفَذَنا الوحيد لِفهم الواقع والتعاطي الجيِّد معه.