ناهد الأغا
ربما يستغرب بعض القراء العنوان، وتبدأ التساؤلات والاستفهام، بماذا يكتب الكُتاب مقالاتهم الثقافية بالتحديد، أليست لغة عربية أم أنها لغة أخرى مختلفة، وجميع هذه الأسئلة لها ما يسوغها، ويبررها ولها إجابة مقنعة.
فإذا أمعنا النظر والتفحص في المفردات التي نألف استخدامها في كتابة المقالات، فكم هي نسبة ارتباط هذه الكلمات والمفردات باللغة العربية الأصيلة، التي حوتها المعجمات اللغوية الأمهات القديمة وليست القواميس الحديثة، التي أصبحنا نعتمدها ونحبذ العودة إليها كلما أردنا معرفة معنى أي كلمة نشعر للحظة غرابتها وصعوبة معناها، وليس تقعرها واستحالة فهمها، حينما نريد أن نشمر في الغريب منها، والبحث في سبر أغوار ما استعصى منها وكانت في سابق العهد مألوفة مفهومة، ونابعة عن تراث أمتنا وحضارتنا، وتاريخنا التليد، لقد دخلت على لغتنا مفردات مولدة ودخيلة وسارت جنباً إلى جانب مع فصيحها وأجزلها، فظن الكثير أن هذه الكلمات من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع في اللغة العربية، وهي ليست بذلك.
أمر يسترعي الانتباه، ويُثير تساؤلا ًكبيراً، ألا وهو أين نحن والمعجم؟ من يستطيع أن يذكر أسماء ثلاثة من المعجمات اللغوية العربية الأصيلة؟ ومن يرجع منا حينما يريد الكتابة إلى أقدمها وأوفرها مادة، وأغزرها مفردات ومعان وتراجم؟ هل اكتفينا أن يكون المعجم على أرفف المكتبات فقط، وهُجرت أو تركت قراءتها؟.
وكثيرا ًما يُثار بصعوبة فهم اللغة العربية، وصلابة المعاني والأنظمة اللغوية فيها، وتعقيدات كثيرة في داخلها، وما يزيد الأمر قتامة، ما يصفه كثيرون من أنها لم تعد تواكب تطورات العصر الحديث وحضارته الجديدة.
وليس من العدل نعت اللغة العربية بالصعوبة والجمود وعدم مواكبتها لتطورات العصر، وهي من أعرق وأثرى اللغات، التي عرفتها البشرية وحضاراتها على الإطلاق.
وأرى في هذا الوقت، الذي نعيش، كيف اندفع عدد لا بأس فيه من المثقفين أوالدارسين، والشباب العرب ميلهم إلى استخدام اللغات الأجنبية في شؤون حياتهم اليومية، واعتمادها كلغة تخاطب بينهم، وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، ذلك يلاحظ باستخدام مفردات وكلمات وعبارات عديدة في أيامهم وشؤونهم واحتياجات حياتهم، ويشيع ذلك في أوساط طلبة الجامعات العربية، الذين ينزعون نحو إهمال لغتهم الأم، اللغة العربية، التي تعد أكثر قداسة وفصاحة، فيكفيها فخراً وتكريماً أن خصها الله تعالى بفضله وأنزل بها ذكره الحكيم وكتابه العزيز: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} صدق الله العظيم، ورغم ذلك كله نرى انجراف وانجرار أهل لغة الضاد مع سيل اللغة الأجنبية وإعجابهم بها.
لا نغفل ما أدركه الحريصون والغيورون على لغتهم الأم لغة الضاد من علماء اللغة، والأدباء، والشعراء مدى الخطورة، التي تعصف وتلقي بظلالها على واقع ومستقبل لغتنا العربية، إذا استمر الوضع وبقي قائماً على ما هو عليه الآن، لذا توالت الصيحات، وتوالت وتتابعت النداءات مطالبة وملحة بأهمية المحافظة على اللغة العربية، وضرورة رعايتها والاعتناء بها، وتأكيد الحرص على ديمومتها، وخرجت- بحمد الله- توصيات بالإجماع متفقة على ضرورة إيلاء اللغة العربية الاهتمام الأكبر، والمحافظة عليها، وبقائها حية يقظة لا تعرف الفناء.
وإنني كإنسانة كرمها الله أن أكون من أمة العرب، لا أنكر ما جال في داخلي، وثار في هاجسي من إدراك حجم الخطر المحدق بلغتنا الأم، فعكفت على الغوص في البحث، وقراءة ما استقر في بطون المظان والمؤلفات الأدبية، والمعجمات اللغوية القديمة، وكانت الميدان الأكبر وذات الاهتمام في قراءتي، فاطلعت على عدد لا يستهان به من المعجمات اللغوية، التي ضمت بين دفتيها مواد لغوية ثرية وغزيرة من مفردات وكلمات، وتراكيب متكاملة، كان معجم لسان العرب لابن منظور في طليعتها، والعين للخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي يعد أول كتاب وأساس في علوم اللغة العربية، وكان قاعدة بناء راسخ وثابت لكل من أراد دراسة اللغة العربية وعلومها وأنواعها، كذلك معجم الصحاح للجواهري، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيده، ومقاييس اللغة لابن فارس، وتاج العروس للزبيدي، ويا لجمال وعظيم ما وجدت فيها من كنز دفين، كما هي نفائس الذهب في أعماق الأرض، و أجمل اللؤلؤ والمرجان في أعماق البحار، فكم من حِكمٍ، وشعرٍ، أقوال، وأمثال، امتلأت في ثنايا هذه المعجمات، ما شدَّ النفس إلى اللغة العربية، ويزدادُ التعلق بها، لجمالها وحُسنها المنقطع النظير، وروعتها، وبديع نظمها وشعرها، ونثرها.
لنا أن نتأمل ما قاله المطران يوسف داود الموصلي عن اللغة العربية، فذكر قائلًا: «أقرب سائر لغات الدنيا إلى قواعد المنطق، عباراتها سلسة طبيعية»، ومنذ زمن بعيد، حتى ممن ليس من أبناء الأمة العربية، والناطقين بلسانها ولغاتها، لم يخفوا ما تكتنزه هذه اللغة من جمال وقوة وجزالة، لا يُمكن لأحد إنكارها وإخفاءها الأمر كذلك فيما قاله المُستشرق ((إرنست رينان)) في كتابه (تاريخ اللغات السامية): «تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكَثرة مفرداتها، ورقَّة معانيها، وحسن نظامها، ظهرت كاملة من غير تدرُّج».
نحن ندرك -ولله الحمد- حقيقة لا يمكن الحياد عنها، هي قوة لغتنا العربية وإرثها الخالد الكبير في النفس والواقع والمعارف والعلوم منذ الأزل وليس وليد اليوم واللحظة.
وأحمد الله حق حمده وثنائه أنه يُسخر من أبناء خير أمة أُخرجت للناس من يتصدى لخدمة اللغة العربية، والبذل لتكريس أسس وأُطر بقائها متقدة بنور لا يغادر أبدا، ولنا في مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية خير شاهد ودليل بالحرص والاهتمام والرعاية الكبرى لخدمة اللغة العربية وعلومها في مملكة الخير والعطاء، هدية ثمينة ونفيسة في أرض انطلقت منها بدايات اللغة العربية وقواعدها وأركانها من ابن بارِ لوطنه وأمته، التي أحبها مفتخرا بانتمائه لها، جاد بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان آل سعود -حفطهما الله-، بتأسيس المجمع ليكون الجهة الرسمية السعودية التي تتولى المهام المرتبطة بالشؤون اللغوية، وسياساتها وبرامجها، إضافة إلى العمل الدولي المرتبط بها، وإليه يُسند أمر القيادةَ بالدراسات الاستشرافية، ووضع الاقتراحات والتوصيات على أعلى المستويات؛ بُغية معالجة أية مخاطر محتملة، أو اقتناص أي فرص ثقافية ممكنة، إيماناً راسخاً من لدن حكمة القيادة الرشيدة بضرورة مواجهة التحديات الحضارية أمام كل اللغات، واعتزازًا راسخاً بالذات والهوية الثقافية والحضارية، وتقديم المكوّن اللغوي جزءًا أصيلًا من مكونات الهوية التي نفتخر بها، لتستمر اللغة العربية وآدابها في بناء جسور التواصل والإخاء والسلام إلى جميع أنحاء العالم. ووسيلة إضافية من وسائل تحصيل العلوم والمعارف وتطويرها، تحقيقاً لرؤية التقدم والازدهار، رؤية 2030.