د.حسن مشهور
مر شعراء على خريطة الزمن عبر وجوديته التاريخية، وهؤلاء يملكون الموهبة، واحتلوا في زمنهم مكانة تتوافق مع قيمتهم الأدبية. إلا إنه بتتالي التاريخ، فإن الذاكرة الأدبية الشعبية قد تسقط من بنيتها الفكرية أغلب إن لم يكن كل ماقدم هؤلاء من فعل ثقافي، ولاتبقي من ذكرهم سوى على حادثة بعينها تكون لها ارتباطيتها بهم كمتعلق ثانوي بحدث كان أبطاله هم الغير.
هذا الأمر يحث في الغالب حين يكون هناك احتراب بين معسكرين، بغض النظر عن نوع هذا الاحتراب، ويكون لكل معسكر جمهوره ورواده ومريدوه. أي كما كان الاحتراب الشعري بين جرير والفرزدق، وإن كان هناك من المؤرخين - وعلى رأسهم الراحل طه حسين - من يعتقد بأن الباعث لاستمرارية ذلك الصراع هو تغذيته من قبل صانع القرار، الذي كان يفضل أن يشتغل عموم الجمهور بالثانويات عن التركيز على نقد واقعه وممارساته السياسية.
وأحد الأمثلة فيما ذهبت إليه هو الشاعر حصين بن معاوية شاعر الملحمات الشهير بالراعي النميري. الذي لم يرحمه حتى المحدثون من الأدباء ومعهم الشاعر العراقي فالح الحجية الذي تحدث عنه ذات يوم قائلًا: (أما شعره فيتميز بطابع التقليد والمحاكاة لكثرة ما يحفظ من شعر الآخرين، اشتهر بالوصف والمدح والهجاء والشكوى).
فماهي الأسباب التي جعلت الذاكرة الشعبية تتجافى عن ذكر محاسن شعره وملكته الشعرية التي تميزه عن غيره، في إنه أشهر من وصف وخاصة حين يتعاطى في شعره مع الإبل. حتى إن بعض المشتغلين بالنقد وخاصة من عاش منهم في عصور مبكرة قد حملوا تلقيبه بالراعي، ليس لاشتغاله بعملية الرعي، وإنما لكثرة ماوصف الإبل وبشكل دقيق بز به أقرانه.
بل أكثر من ذلك قد تولد في العقل الجمعي الأدبي عبر امتداداته التاريخية «تعميم إدراكي تلازمي» يتمثل في إن ما أن يرد ذكره حتى يرد لأسماعنا اسم النميري، هجاء الشاعر جرير له ولقومه بني نمير بقصيدة يسميها البعض بالدامغة، وفيها البيت الشعري الذي صرنا نردده ليل نهار وأعني به:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلاباً
هذا إلى جانب إنه يعد من الشعراء المعدودين في فن الهجاء، وله فيه باع طويل بحيث إن هجاء جرير له لايعد ذو أثر اجتماعي أو نفسي عليه، إذ ماقورن بهجائه هو للغير. ومن هنا فقد كان بإمكانه الرد على جرير بقصيدة يعارضه فيها أو يحدث فيها من الهجاء ما يقوض به فعل جرير. ولنتأمل هجاءه لأحد أبناء قبيلة بني كليب، ودفاعه عن قبيلته بني نمير إذ يقول:
رأَيتُ الجَحشَ جَحشَ بَني كُلَيبٍ
تَيَمَّمَ حَولَ دِجلَةَ ثُمَّ هابا
فَأَولى أَن يَظَلَّ العَبدُ يَطفو
بِحَيثُ يُنازِعُ الماءُ السَحابا
أَتاكَ البَحرُ يَضرِبُ جانِبَيهِ
أَغَرَّ تَرى لِجِريَتِهِ حَبابا
نُمَيرٌ جَمرَةُ العَرَبِ الَّتي لَم
تَزَل في الحَربِ تَلتَهِبُ اِلتِهابا
وَإِنّي إِذ أَسُبُّ بِها كُلَيباً
فَتَحتُ عَلَيهِمُ لِلخَسفِ بابا
وَلَولا أَن يُقالَ هَجا نُمَيراً
وَلَم نَسمَع لِشاعِرِها جَوابا
رَغِبنا عَن هِجاءِ بَني كُلَيبٍ
وَكَيفَ يُشاتِمُ الناسُ الكِلابا
والسؤال إن كان الرجل قد نافح عن قبيلته وهجا بني كليب عن بكرة أبيهم لخلافه مع فرد منهم، فكيف لايرد هجاء جرير له ولقومه، وينافح عن قبيلته ويدافع عما لحق بها من صنيع جرير؟
خاصة وإنه يعد من فحول الشعراء المحدثين، ومن قبيلة نمير التي توصف بأنها أهل بيتٍ وسؤدد. وكان كما يصفه المؤرخون كريماً في قومه ومن أسياد قبيلته، على عكس جرير ووضعه الاجتماعي وما حدثتنا به المرويات التاريخية عن بخل أبيه ووضاعة حاله.
وعلى الرغم من اعتقاد جرير، وترديد غيره من المؤرخين بأن النميري كان يريد بهجاءه هذا جرير وليس أحد غيره، وإن وصف الجحش وكلب بني كليب، قد كان المقصود بهما جرير، الأمر الذي دعا جرير أن يشتكي لبعض قومه بأنّ الراعي يهجوه مع أنّه يمدح بني نمير، ويُفضّل الفرزدق مع أنّه يهجو بني نمير، وغضب جرير ومن ثم قراره بأن يذهب للراعي النميري ويلتقيه كي يتحدث معه ويستفهم منه عن سبب هذا التفضيل.
إلا إن الشواهد الخارجية ومحيطات الأمر، لاتدل على صحة هذا الاعتقاد، خاصة في إنه لم يرد قبل قول هذه القصيدة أن جرير قد عرض بأحد بني نمير أو هجا القبيلة أو أحد أبنائها. في حين إن المتأمل لأبياتها سيجد بأن الراعي النميري يرد على ذلك الكليبي، رد من ينافح عن عرضه أي قبيلته ويدافع عنها. ونلمس ذلك في قوله:
وَلَولا أَن يُقالَ هَجا نُمَيراً
وَلَم نَسمَع لِشاعِرِها جَوابا
أي إن قصيدة النميري، قد كان الباعث الرئيس لها، هو الرد على من هجا قبيلته بني نمير التي تعد من بيوت السؤدد والسيادة في العصر الأموي. وليست موجهة لجرير الذي لم يكن قد هجا النميري ولاعرض لأي فرد من أبناء نمير، ناهيك عن القبيلة بأكملها.
ومن هنا تكون رواية غضب جرير منه واتهامه إياه بأنه قد عرض له ووصفه تارة بجحش بني كليب، وأخرى بكلب بني كليب، هو أم مختلق من اختلاقات الرواة أمثال حماد الراوية وحماد عجرد ومطيع بن إياس. وأما في حالة صدق الرواية وحصول غضب جرير، جراء اعتقاده بأنه هو المعني بالهجاء في هذه القصيدة، ففي تقديري بأن هناك أفراداً ممن تفرغوا للسعاية بالوشاية وإيقاع الخصومة بين الطرفين، بحيث جعلوا النميري يجزم بأن جرير قد انتقص من قبلته وأساء بشكل من الأشكال القولية لها، وليس بالضرورة أن يكون ذلك في قالب شعري، وإنما قد تكون الوشاية قد بنيت على شاكلة قول وكلام مرسل، فكان ذلك الأمر هو الباعث لغضب النميري وتفضيله للفرزدق على جرير.
وفي مراحل لاحقة وبعد ارتفاع وتيرة الوشايات من قبل جماهير الفرزدق ضد جرير، وازدياد حنق النميري على جرير، كان إن رد النميري بقصيدته تلك التي عرض فيها بجرير ووصفه الجحش والكلب، ونافح فيها عن قبيلته بني نمير. وفي ذات الوقت، يكون هؤلاء المشائين بالنميمة قد حملوا جرير بعد قول النميري لقصيدته هذه على الاعتقاد بأنه هو المقصود بهذا الهجاء، خاصة إنه قد سبق قول هذه القصيدة تفضيل النميري للفرزدق وشاعريته على شعر جرير.
وبناءً على هذا المنطلق، نستطيع قبول تلك السردية التاريخية، وأعني بها الرواية التي تقول بأنه ذات يوم خرج جرير ماشيًا ولم يركب لئلّا يراه أحد، ووقف في طريق يمرّ به الراعي عندما يعود من المربد، وما أن اقترب النميري وبصحبته أحد أبنائه، حتى أتاه جرير وسلّم عليه، وعاتبه على تفضيله للفرزدق، وطلب منه أن يشهد للاثنين -أي له وللفرزدق- بالشاعرية وبذلك لا يكون طرفًا في الخصام، ولكنّ ابن النميري قد كان يقف إلى جوار أبيه فتدخَّلَ وضرب دابّة جرير فأوقعَ جريرًا على الأرض وكادت الدابة تدوس قدم جرير. ثمّ قال ابن الراعي مخاطبًا والده: «لا أراك واقفًا على كلب من بني كليب كأنّك تخشى منه شرًّا أو ترجو منه خيرًا»، فانتظر جرير من الراعي أن يعتذر عمّا بدر من ابنه ولكنّه لم يفعل، فانصرف جرير غضبان ممّا كان من الراعي وابنه، فصلّى العشاء ولم يغمض له جفن حتى صار السَّحَر فإذا هو بقصيدة تزيد على تسعين بيتًا، وضع فيه كلّ طاقته في الهجاء.
والتي يقول في مطلعها:
أَقِلّي اللَومَ عاذِلَ وَالعِتابا
وَقولي إِن أَصَبتُ لَقَد أَصابا
إن المتأمل لهذه الرواية إن صحت، سيلتمس فيها جانباً أو فلنقل إضاءة مهمة تتمثل في قول ابن النميري لوالده: «لا أراك واقفًا على كلب من بني كليب...». إذ نجد في هذا القول ترديدًا لمفردة «كلب»، التي أوردها النميري في قصيدته الهجائية آنفة الذكر. كما نجد في كلام ابن النميري الغاضب هذا وضربه لدابة جرير في صورة تمثل أبجديات الحنق والغضب الذي لابد أن له تراكمات سابقة، هو الدليل الأمثل على إنه قد كانت هناك وشايات وأخبار مغلوطة ومحاولات إيقاع قد كانت تصل للنميري وابنه فتشعل نار الغضب في قلبيهما على جرير.
وهكذا بقي ذكر جرير والفرزدق حاضرين في الذاكرة التاريخية العربية بأشعارهما وأخبارهما التي امتدت وتوسعت في تقديري، حتى أضحى المكذوب منها أكثر من المصدوق، ونُسِيَ النميري مع شاعريته ومكانته الاجتماعية والقبلية من ذاكرة التاريخ، ولم يبق من ذكره سوى إنه هو من أسقطه جرير ببيت شعر.