د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
(تابع لسابق)
(وصم موضوع البحث بالاستهلاك)
هذا حكم جليل عليل يرد مثلاً وصماً على موضوع بحثٍ ما أنَّه مستهلك، خصوصاً في علمٍ أو تخصُّصٍ مثل النَّحو، وفي موضوعات علم النَّحو النَّظريَّة، وقد جاء ذلك وصماً لبحث لي نقديٍّ يعالج قضيَّة نحويَّة ما، ومن عجبٍ أنَّ هذا الوصم جاءني مرَّة من قِبَلِ هيئة تحرير مجلَّة علميَّةٍ قَبْلَ بعثه إلى المحكِّمين مع الاعتذار من النَّشر لاستهلاك الموضوع، مع إغفال ذكر المحتوى مع جِدَّة الطَّرح فيه فيما أحسب.
والعجيبة العُجبى في هذا أنَّ البحث عينه لمَّا أرسلتُه إلى مجلَّة علميَّة أخرى تلقيتُ من لجنة هيئة التَّحرير حكماً مناقضاً للحكم السَّابق، وهو أنَّ البحث فيه جرأة طرح، وابتداع نظرٍ؛ لذا تعتذر اللجنة من قبوله ونشره، هذا قبل إرساله إلى المحكِّمين.
وجاءني مرّةً مثل هذا من الاعتذار بالاستهلاك من فاحصٍ محكِّم، وكان في بحثٍ نقديٍّ كتبتُه. نعم، هو كما قال الفاحص مستهلَك إن كان قصد النَّقد لكونه نقداً من الجهة النَّظريَّة؛ لأنَّ النَّقد عمل مستهلك، لكن النَّقد من الجهة التَّطبيقيَّة يخالف ذلك باختلاف النَّاقد، وباختلاف أدواته وتطبيقاته لها، فليس بمستهلك حينئذٍ لاختلاف الأذواق والمشارب ومنطلقات النَّقد، وأقرب شاهدٍ على ذلك ما ذكره الفاحص نفسه أذ قوله هذا نقدٌ من النَّقد، ولو سلَّمنا بقوله بالاستهلاك لكان قوله هذا مستهلكاً أيضاً، ولما كان يحسن منِّي نقده والتَّعليق عليه.
وأمر آخر أنَّ ما يوصف بالاستهلاك هو المواضيع والمسائل والقضايا الَّتي تطرق بحثاً؛ أعني البحث الدِّراسيَّ لا النَّقديَّ، وذلك لثبات الأحكام فيها على حُكمَين، وانعقاد المذاهب في مسألةٍ ما على مذهبين مثلاً، ومثل ذلك لا يكون في بحث للقراءة النَّاقدة لبحثٍ أو كتابٍ في قضيَّة ما، وأمَّا النَّقد فينقد ولا يوصم بالهلكة، ومثاله وحاله كحال الفاحص العزيز في نقده لبحثي، وما أظنُّه سيحكم على نقده بالمستهلَك.
إلماعة
وأطرح ما عرضتُه من هذه المشكلة سؤالاً: متى يكون القول أو العمل أو الجهد مستهلكاً؟ وجوابه عندي: يكون ذلك إذا انحصر أمر القضيَّة المطروحة في رأيين أو ثلاثة فحسب، وانقطع أمرها على مذهبين أو ثلاثة مثلاً، والباحث فيها بعد لأيٍ سيخرج بأحد الرَّأيين وسيأخذ بأحد المذهبين، فآنئذٍ سيكون عمله وجهده مستهلكاً؛ لأنَّ النَّتيجة محسومة سلفاً ومعلومة قبلاً، وما لا فلا.
[الانتقاد بعدم وضع خاتمة]
وضع الخاتمة لبحثٍ ما، وبناء المخطَّط من فصولٍ ومباحث ومطالب ومسائل، وخاتمة، يكون حتماً واجباً، أو حسناً، أو جميلاً ليس لازماً؛ لأنَّ وجود الخاتمة من عدمها يخضع لنوع البحث وغرضه، فلا يُغفل عن طبيعة البحث، والنَّظر إليه نظراً مجرَّداً؛ أي: قالباً بحثيّاً؛ تعدَّد مكوناته: (مقدمة/ تمهيد/ فصول/ خاتمة/ ثبت مصادر) خللٌ، بل نوع البحث وطريقة منهجيَّته، والمادة العلميَّة المبحوثة كلاهما مؤثِّر في مكوِّنات البحث، والتَّآليف أنواع، والنَّقد من أنواع التَّآليف السَّبعة، والتَّأليف منه تشريع، وتجميع، وتفريع، وتقريع، و...
وكلُّ نوعٍ منها تحكمه طبيعته في الطَّرح والعرض، فقد لا تحتاج بعض البحوث إلى خاتمة خاصَّة إذا كان البحث نقديّاً يتتبَّع فيه النَّاقد الملاحظ في بحثٍ آخر، ويبدى النَّظرات على كتابٍ ما، اللهمَّ إلَّا أن تكون الخاتمة ملخَّصاً للبحث، وليست هذه هي المحوَى العلميُّ للخاتمة، فبالوصف السَّابق تكون ملخَّصاً للبحث لا خاتمة.
وأعيده قولاً: البحث القائم على النَّقد لا يحتاج إلى خاتمةٍ؛ لأنَّ الخاتمة علميّاً تذكر فيها ثمرات البحث ومقترحات الباحث وتوصياته، وسبب ذلك أنَّ البحث نقديٌّ لا دراسيٌّ فلا يحتاج إلى خاتمة، بل يأتي البحث النَّاقد بذكر الملاحظ مع التَّعليق عليها، وأقرب شاهدٍ على صحَّة ذلك هو عمل الفاحص المحكِّم إذ نقده لبحثي كما جاءني لم يضع له خاتمة؟! فهو يطلب من غيره ما لا يلتزمه! وعمله هذا هو الصَّحيح عند التَّطبيق، وأمَّا نقده بعدم وضع خاتمة فهذا من التَّنظير، والتَّنظير خلاف التَّطبيق، ودونك أيُّها الفطن الفهرس على أهمِّيته للمحتوى تفتقده البحوث المنشورة في المجلَّات، وبعض البحوث تصل صفحاته مائةً أو تزيد، وهو عندي أهمُّ من أن تكتب ثبت المصادر للبحث باللغة الإنقليزيَّة، إذ أنت واجدٌ بعض المجلَّات العلميَّة تذيِّل البحوث العربيَّة باللغة الإنقليزيَّة.
(متبوع)