مشعل الحارثي
بقلب مكسور وآهات مدفونة تملكني حزن شديد وأنا أقف بمبنى الشحن بمطار جدة مساء يوم الثلاثاء 30 ربيع الثاني1445هـ برفقة أخي وصديقي الدكتور يوسف العارف، وصديقي العزيز محمد باوزير في انتظار وصول جثمان فقيد الثقافة والأدب الدكتور عالي بن سرحان القرشي تغمده الله بواسع رحمته وهو عائد من مشفاه الأخير بالقاهرة جسداً مسجى بلا روح بعد أن أسلمت شمسه للمغيب وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها بنفس راضية مطمئنة، وغادر دنيانا متكئاً على وجع أيامه لائذاً بالصمت مجللاً بقماشته البيضاء مسرجاً جياده في ملكوت العزلة المبجلة ونحو مدائن صيغت من عشب أخضر.
إنني حينما ودعته وأصدقائي الوداع الأخير ووقفنا على نعش الفراق وقدمنا تعازينا لمن كان في انتظار جثمانه من أسرته الكريمة وفي مقدمتهم أخوه أحمد القرشي، وابن الفقيد يوسف، وأحد أقربائه، فإننا لم نذرف الدموع من عيوننا على فراقه ورحيله فقط ولكن قلوبنا هي الأخرى كانت تنز دموعاً وتتلوى ألماً لفقد أخ كريم وصديق عزيز وقامة علمية أكاديمية فكرية أثرت مشهدنا الثقافي بفيض علمه، وقدم لنا وللمكتبة العربية خلاصة فكره في العديد من المؤلفات والمشاركات الفاعلة في العديد من المؤتمرات والندوات والمحاضرات في الجامعات والنوادي الأدبية والمنتديات والجمعيات الثقافية التي ستظل هي الأخرى مصدر إرث خصب لعطائه وتشير له بعين الإجلال والتقدير، كما ودعنا فيه قلبه المشحون بالأحاسيس والحب، والمفتوح على الأصالة والحداثة الأدبية في نسق بديع تعكس أحلامه المسترسلة في التفاصيل وماتوارى في معطف الكلام.
وطوال معرفتي بأخينا وصديقنا الراحل عالي القدر والمكانة عالي القرشي رحمه الله فلم نعرف عنه إلا الخير، وتلك الابتسامة التي يلقانا بها وتعكس سر نقاء معدنه وصفاء نفسه، ولم أعهد عليه أي خصومة مع أحد، أو سمعت منه فحشاً أو إسفافاً في القول فهو لايتفوه إلا بحلو المنطق وعذب الحديث، بل كان يتعامل مع الجميع وعلى اختلاف طباقاتهم ومستوياتهم بالسماحة والخلق الرفيع والتواضع الجم والتي أملتها عليه تربيته الأصيلة وأخلاقه الإسلامية الرفيعة.
وسيظل الدكتورعالي القرشي في الذاكرة بزوغاً ونبوغاً وبلوغاً، وأحد حراس الكلمة وفرسان اللغة التي كانت عشقه الأول، وكان كجدول مترف بالعذوبة وصفاء النفس الشفيفة شامخاً كشموخ جبال الشفا بالطائف التي لاتخبو ولاتنحني ولاتجثو ولاتنثني، وأحد رواد ذلك الجيل الجميل ممن طرق وعينا بجذوة الكلمة ونصل العبارة وخصب المعاني، وأسرجوا القلم وخطوا لنا حروف المعرفة والثقافة من خلال أدواره المتعددة مدرساً ودارساً وباحثاً وأديباً ومثقفاً وناقداً، وأضرم فينا نحن محبي الثقافة وعشاقها من أبناء مدينة الطائف حب الكتاب فكان يشجعنا على القراءة وكل ما نلقاه يذكر لنا العديد من العناوين الجديدة، ويلقي علينا بعض الأسئلة لينقلنا لعوالم وفضاءات رحبة، ويفتح المجال لكل الجادين والباحثين عن نقطة ضوء تفيض بالمعنى وتزخر بالمغزى، وكأنه بطريقة أو بأخرى يدعونا لوجبة ثقافية مميزة تستحق البحث والقراءة والتأمل.
وبعد أن استيقظت دموع الحسرة وغادرت يا أبا إبراهيم مكانك وأغمضت العينين مودعاً خالي الوفاض إلا من حسناتك وذكرك الطيب الحسن وإرثك العلمي الكبير، وقلوب من أحبوك وقدروك حق قدرك فنسأل الله جل في علاه أن يرحمك رحمة الأبرار، وأن يغفر ذنبك ويفسح لك في قبرك، ويجعل مالقيته من عنت ومعاناة مع المرض طوال السنوات الماضية مكفراً لك وقائداً لجنات الخلد والنعيم، كما أدعو لك أيضاً بما كنت أنت تدعو به دائماً لمن ودعتهم في دنياك لمستقرهم الأخير وتقول : (اللهم اجعل ثرى قبره مهاداً له من نعيم الجنة ولحافاً ) فندعو لك بمثل هذه الدعوة ونؤمن عليها اللهم آمين آمين آمين.
وفي الختام أقدم أحر وأصدق التعازي لإخوة الفقيد أحمد القرشي، وخلف القرشي وأبنائه، وزوجته الدكتورة سارة الأزوري، والعزاء موصول لكافة أسرته وذويه من آل القرشي وأصدقائه وزملائه وطلابه ومحبيه من مثقفي هذه البلاد والبلدان العربية الأخرى، ولانملك إلا أن نقول وكما قال حبيبنا وقدوتنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.