أ.د.عثمان بن صالح العامر
شاءت إرادة الله عز وجل أن يجعل منا الأبيض والأسود وبين هذا وذاك، وقضت حكمته سبحانه وتعالى أن يخلق منا الأصحاء والمرضى وذوي العاهات، أو ما يسمون اليوم بـ(ذوي الهمم)، ولأن التاريخ يُكتب غالباً بلغة المنتصر، ومن له السلطة والسطوة في تلك الحقبة الزمنية أياً كانت، وإن أحسنا الظن قلنا إنه تاريخ الأكثرية في زمن لا يعرف التخصص، ولا يكترث بشأن القلة سواء المرأة في مجتمع ذكوري، أو الأسود في مقابل الأبيض والحنطي، أو ذوي العاهات مقارنة بالأصحاء، أياً كانت الأسباب، فقد أُهمل في كثير من أيام تاريخنا ما قام به السود من إنحازات ومفاخر، ولذا كانت فرحتى كبيرة بخبر نشر منتصف الأسبوع الماضي في صحفنا المحلية ومواقعنا الإلكترونية من أن مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض أصدرت الترجمة الإنجليزية لكتاب الباحث الدكتور رشيد الخيون بعنوان: «أثر السود في الحضارة الإسلامية».
وقد تضمن الكتاب، بحسب الترجمة الإنجليزية – ترجمات المسلمين السود في مختلف عهود الإسلام حتى نهاية العهد العباسي ببغداد (656هـ/ 1258م) مع دراسة مستفيضة عن العبودية في مختلف الحضارات، وتفاصيل نهاية العبودية وتجارة العبيد البيض والسود بأوروبا والدول الإسلامية.
وتأتي أهمية الكتاب الذي يقع في نسخته الإنجليزية في (403) صفحات، كمحاولة توثيقية جامعة لأدوار إنسانية قدمها السود شأن غيرهم، بوصفهم أعضاء فاعلين في الحضارة الإسلامية، من خلال تتبع لمسار العلاقة التي انطبعت بحساسية تربط بين لون البشرة والعبودية خصوصاً بعد عصر الخلفاء الراشدين. حيث سلط الكاتب الضوء على الصفحات المنسية لهذا اللون بالذات، وفي ذات الوقت سرّني كثيراً وأسعدني وأثلج صدري انعقاد المؤتمر الدولي السادس لكلية اللغة العربية بأسيوط فرع جامعة الأزهر الموسوم بـ(إسهامات ذوي الهمم في بناء الحضارةالإنسانية قديماً وحديثاً)، يومي الأحد والاثنين من الأسبوع الماضي 12- 13 نوفمبر 2023م الذي نص منظموه على أن رسالته: (إيضاح حقائق مقررة، ولكنها غائبة عن عقول جمهرة الناس الذين لهم اهتماماتٌ تخصُّ ذوي الهمم، وهذه الحقائق لها أصول ثابتة راسخة في تراثنا العظيم، ومن الضروري كشف هذه الحقائق الناصعة الأصيلة، وترسيخها في مجتمعاتنا، حتى تتجلى قيمتها العظمى.
- إعلاء قيمة العقل والجوهر على الصورة والمظهر.
- تقديم القدوة والأنموذج لذوي الهمم المعاصرين.
- إبراز دور العلم في رفعة الإنسان بصفة عامة.
وانعقد هذا المؤتمر النوعي المتميز بأبحاثه وأوراقه العلمية جراء إشكالية متجذرة في المجتمع إذ (إن المتأمل بوعي في طبقاته - كما يذكر المنظمون - يجد طوائف قد وهبت قدرات خاصة في نواحٍ كثيرة، ولكنها أُهملت حتى طُمرت، وغُطّي عليها بضجيج صاخب، فلم يسلط الضوء الإعلامي الكافي على أحوال ذوي الهمم ومواهبهم وما هم محتاجون إليه من رعاية حسية ومعنوية.
ومن ثم فقد وُجِدت ضرورةٌ ملحةٌ لملء الفراغ الحاصل، وسد الفجوة القائمة عبر حلقات التاريخ الحضاري للأمة، هذه الفجوة وذلك الفراغ يتمثلان في غض الطرف عن جهود ذوي الهمم بعد تجاهلٍ واضحٍ لها إلا في دراسات منفردةٍ أحياناً، ومن هنا كان هذا المؤتمر ليشكل رصيداً ضخماً لهذه الجهود).
ولأن من اهتماماتي الشخصية التعرف على إسهاماتهم في الفكر على وجه الخصوص، فقد حرصت على الأبحاث والأوراق العلمية التي جاءت في محور (إسهامات ذوي الهمم في الجوانب الفكرية والعلمية) وتشرفت بالاطلاع على ورقة الدكتورة: (آلاء بنت أحمد شوكت زاهد) من المدينة النبوية، التي أبدعت في عرض إسهامات هذه الفئة في إثراء المكتبة العربية بكمٍّ من التراث الفكري والعلمي يجب أن يكون محل فخر وافتخار لكل محب لذوي الهمم، قريباً منهم، معايشاً لهم، فرحاً بهم، وليس هذا بغريب على الدكتورة آلاء فهي فرس أصيل في مجال البحث العلمي والدراسات الإنسانية وكذا الأعمال الخيرية والتطوعية، وقد عرّجت وفقها الله بعد أن عَرّفت بهذه الفئة، على تمكين ذوي الهمم في التاريخ الإنساني، ثم كتبت عن إسهاماتهم في باب العلوم النقلية ثم العلوم العقلية بالاسم والتاريخ والمنجز العلمي أو الفكري الذي أثر في مسار الحضارة الإنسانية. وللحديث بقية عن هذه الورقة بالذات الجمعة القادمة بإذن الله، وإلى لقاء والسلام.