د. عبدالإله بن عثمان الصالح
امتد الصراع الساخن مع اليهود عقوداً من الزمن وما زال. ومن ورائهم الصهيونية العالمية ومؤسساتها. غبشت أبخرة غليان هذا الصراع بصر العالم عموماً والعرب والمسلمين بخاصة. غبشت البصر والبصيرة عن استشراف منزلق خطير وقع فيه الجميع فما يكادون يتبصرون. وفيما يلي الماحة لما أقصده وأرمي إليه، راجياً أن يتأمله الحصيف وينزل عليه الواقع المعيش ليرى صحة ما أشير إليه. وأرجوا أن يكون هناك إجماع حول هذا الشأن يقود لرؤية أفضل وأكثر واقعية للتعامل مع العالم وما يتزاحم فيه من ثقافات وقوميات.
إن الصراع الذي أشرت له آنفاً امتد قروناً من الزمن، ولكنه تركز، وتبلورت ملامحه، وظهرت أطرافه، وحمي وطيسه في العقود الأخيرة مع تكوين دولة ذات طابع عنصري للكيان اليهودي في غرب الشام من بلاد العرب حيث الأرض المباركة حول المسجد الأقصى. صراع طال أمده عبر العقود، وامتد عبر الجغرافيا الثقافية والسياسية والإنسانية. ووظفت الأطراف فيه كافة الوسائل والأسلحة. ويبدو أن الصهيونية كانت فيه «سابقة» و»سباقة».
كانت «سابقة» في وسائل «الحضارة» ووسائل الإدارة والإعلام والانتشار والقدرات العلمية والثقافية والمناهج السياسية والتاريخية والتواصل الدولي والشعبي. ساعد في توافر هذه المهارات وتراكمها وتحفيزها، الكبت الأوروبي عبر التاريخ للأقلية اليهودية وهي مادة الصهيونية (مثل ما أن العرب مادة الإسلام). تمثل هذا الكبت في فرط العنصرية عبر القرون الوسطى المسيحية وعصور التنوير الأوروبي الليبرالي. دفعت هذه العنصرية في القرون الوسطى باليهود للمهن «الحقيرة» مثل الطب! والصناعة الحرفية والمداينة الربوية وغيرها مما هو موثق في التاريخ الأوروبي وأديباته بل فنونه. أما في عصر الليبرالية الغربية دفع ريب الأقليات اليهودية وتوجسهم من مجتمعاتهم الأوروبية، إلى التعايش والانتشار في ساحات الفكر والفلسفة والأدب والفن، مع استبقاء بل ترسيخ تقاليدهم في دنيا المال والأسواق والعلم والصناعة. وفي كلا الحالين فما كان من عباقرتهم إلا الاندفاع لعالم الثقافة والأدب والعلوم الإنسانية والفلسفة يصرفون فيها ومن خلالها القهر والمشاعر الدفينة التي يعايشونه في كنف تلك المجتمعات وما ترسخ في ضميرهم الجمعي عبر القرون لإثبات الذات، من خلال آليات نفسية واجتماعية ومؤسسية معقدة ترسخت وتطورت مع الزمن حتى أضحت ثقافة راسخة وتقاليد تكاد أن تكون أصيلة. والكل يعلم أنه لم يكن في النصرانية بكل مدارسها أو طوائفها ما يجذب اليهود أو يحيلهم عن دينهم وثقافتهم. بل ان القهر زاد من روح الانتماء حتى صارت اليهودية نسباً والنسب دينا! بعيداً عن التبشير والدعوة لدينهم أو لـ»هدايته» و»حكمته» وإنقاذ العالم به.
واليهود متنوعون في أوروبا وأمريكا ويصعب حصر أو استيعاب انتماءاتهم أو فهم توجهاتهم أو حتى إدراك أو استيعاب أهدافهم، غير العيش والاسترزاق في هامش من الحياة ما برح مرتبكاً ومهزوزاً. وطبيعة هذا الهامش تظل تدفع بهم إلى نوع من الاتحاد، والعمل الجاد في مهارة التعايش. ولكن يرى البعض انه يمكن تقسيم اليهود في مجتمعات أوروبا وأمريكا إلى شريحتين؛ أما الأولى فهي حرة مرنة ليبرالية متحركة، ولكنها تتكئ على الثانية الراسخة الصلبة بل والمتكلسة ذات الطبيعة المتطرفة حتى انها تكاد أن تكون خارج التاريخ ومع ذلك فهي القاعدة. هذه الشريحة الثانية تشمل المتدينين الأصوليين منهم الذين يحتفظون بديانتهم بحرفتيها إلى حدود تكاد تكون فلكورية. أما الشريحة الأولى العلوية فإنها مرنة تساير المكان الزمان والديموغرافيا بكل تنوعاته السياسية والعقدية والفلسفية، ولكنها تنتمي للقاعدة مهما كان بينهما من خلاف وبغضاء (البنون الضالون) فقلوبهم شتى.
وكانت الصهيونية،التي هي بطبيعة الحال، تنتمي للشريحة الأولى في الغالب «سباقة» في توظيف وسائل في هذا الصراع، لم يكن المسلمون أو العرب قادرين عليها دينياً أو أخلاقياً أو فنياً أو سياسياً (بما في ذلك نصارى العرب مع أنهم كانوا أكثر وعياً بالخطر آنذاك لما بين النصرانية العربية الشرقية من جهة والنصرانية الغربية واليهودية من جهة أخرى من تاريخ أسود). ولا داعي لشرح المقصود هنا فهو واضح يعيشه العالم المالي والاقتصادي والعرب في فلسطين. كانت الصهيونية العالمية «سباقة» في تجييش العالم ضد بعضه، والديانات على بعضها وما زالت، أملاً في ترسيخ وتوسيع هامش تتنفس فيه الصهيونية واتباع الديانة اليهودية في أنحاء العالم وفي فلسطين في مهادنة مع الغرب المسيحي أو الليبرالي.
إن الصهيونية العالمية وهي تتغذى على مفاهيم وتراث اليهودية وتلفق فيها مفاهيم ليبرالية غربية فلسفية (عدمية ووجودية...) وسياسية ( شيوعية واشتراكية وغيرها...) وثقافية (قيم نسبية وإلحاد وغيرها...)، وظفت كل ما يمكن ان توظفه ثقافياً وتاريخياً واجتماعياً وفنياً وأدبياً وأخلاقياً ومالياً، لزراعة شك وريبة تحولت إلى عداء مستحكم أو كاد، بين الغرب المسيحي بشقيه الكاثوليكي والبروتستانتي من جهة، والإسلام والعرب (مادة الإسلام) من جهة أخرى في وقت كان فيه هذا العالم متخلفاً ودوله في طور التكوين. ساعدها في ذلك ما أشرت له آنفاً من كونها سباقة وسابقة في الصراع أو كانت.
وأنت أيها القارئ الكريم حينما تضع هذه الفكرة في مخبر البحث والتحقيق بعد أن تتجاوز الغبش السياسي والعواطف القومية، سوف تجد من الواقع المعيش والتاريخ الحديث الدليل تلو الدليل، والمشهد خلف المشهد، والحادث فوق الحادث الذي يؤكد هذا الواقع. كيف وصل إليه أتباع أعظم دينين في هذا الكوكب من عداء مستحكم.
وأنك إذا تأملت في الأمر وجدت أن انتشار وتعايش اليهود، وهم اقليات، في المجتمعات الغربية وخصوصاً حواضرها، إبان صعود هذه المجتمعات سلم العلم والنماء والتطور المادي عاونهم على كسب «مصداقية» و»تأثير». «مصداقية» لأنهم انتموا لدوائر ذات أهمية وتأثير في الحياة اليومية والرزق؛ المال والصناعة والفن والأدب والعلوم التجريبية والإنسانيات. و»تأثير» لأنهم كانوا يحملون ثقافة المسالمة والخنوع والابتعاد عن هجاء ديانة الأغلبية النصرانية والغرب المسيحي، الذي أذلت دولة ومؤسساته عقدة الذنب وارتخاء الديانة في نسيج مجتمعاتهم. بل العكس فقد تمكن أدباؤهم وفلاسفتهم، في سبيل البقاء، من ربط الثقافة النصرانية باليهودية ليكون تراثاَ واحدا! بل وأكثر من ذلك دمجها بحيث يكون الانتماء الأصلي لليهودية. ثم وظفوا عقد الذنب التي أنشأها التاريخ الأسود لمعاملتهم من قبل الدول والأمم الأوروبية في تسخير سياساتهم لحمايتهم بدون تغيير ثقافتهم. والمفاهيم التي وظفت لربط الثقافتين المسيحية واليهودية تنافي الديانة النصرانية واليهودية الحرفية ولكن جلهم الأوروبيين واليهود يحملونها بالعاطفة والبراغماتية والانتماء وليس القناعة أو الإيمان. ولك من دراسة النبوءات «الإنجيلية» المختلقة مثال عجيب لهذا «الاندماج» الأعجب.
إن المتمكن من مصادر التاريخ والمتابع للتحولات التاريخية والسياسية سوف يكتب كتباً حول الموضوع وسوف يصل لنتيجة ازعم انها لن تكون بعيدة عن النتائج المذكورة أعلاه.
وإن هذه القصة المؤلمة التي اختصرتها آنفاً تتكرر الآن أمامنا مع الهنود الهندوس والقوميين، ومع الصينيين والبوذيين وبعض الثقافات الأخرى، وترى رأي العين كيف أن سذج المسلمين والعرب وعامتهم ينزلقون في هذا المنزلق وعلماء الشريعة ومفكرو العرب متقاعسون إن لم تكن تغبشت أبصارهم وبصائرهم عن إدراك الصورة الكبرى ومن ثم بناء جسور فكرية وشعبية مع هذه الحضارات والثقافات. بل ان بعضهم يخلقون اسباباً للعداء العبثي الذي لا يعين على نشر الدعوة إلى الله كما أنه يحرج الأقليات المسلمة في تلك البلاد وكنف تلك الثقافات. وأضيف هنا ان هناك مستفيدين كثر من مثل هذا العداء العبثي في الغرب والشرق.. في الغرب مثلاً هناك مجموعات السياسيين والأحزاب الذين يعيشون على إرهاب مواطنيهم ومنتخبيهم من الآخر حسب ثقافة ديموقراطية الأحزاب، وتجار الأسلحة وغيرهم ممن في حكمهم. ومن الأمثلة في الشرق زعماء العقائد الباطنية والمذاهب الشاذة ذات الطبيعة القومية أو الشعوبية التي تعيش وتنمو في هامش الخلاف. وتأتي المماحكات السياسية والمنافسات التجارية والاقتصادية والثقافية لتزيد من الهوة.
الخلاصة إن سخونة الصراع مع الصهيونية في العقود الماضية التي تزامنت مع تبلور الدول العربية واستقرارها، غبشت أبخرته بصيرة العالم عن رؤية منزلق خطير ومن ثم السقوط حتى بات يفصلنا عن العالم الآن. إن العداء مع الغرب المسيحي والغرب الليبرالي صراع لم يعد ضرورياً لأن الاستعمار الغربي أفل نجمه وتوازنت الكفات أو قاربت. وما بقي على السبق إلا مزيد استقرار وهدوء تنطلق فيه المواهب بعيداً عن السياسة والتنافس عليها وفيها والشعارات الجوفاء التي لم تؤد إلا لحروب أهلية عبثية وارتباك قيمي وفكري. وفي الأفق مع الأسف صراعات ثقافية سوف تترسخ وتتحول لصراعات سياسية وعرقية مع الهنود ومع الصينيين وغيرهم يوظف أعداء الإسلام فيه سذج المسلمين والعرب لتمكين العداء وزيادته ليكون منزلقات تأخذ بالعرب والمسلمين بعيداً عن طريق الرقي والتعايش في هذا الكوكب، كما يوظف فيه خوف تلك الثقافات من الإسلام والمسلمين في ظل تاريخ يراه كل من زاويته وركنه.
«الإسلام عقيدة ووسائل.. أما العقيدة فثابتة مدى الزمان والمكان، وأما الوسائل فحسب ما يفرضه الزمان والمكان وفي إطار الإيمان والحلال والحرام».