عبدالوهاب الفايز
بعد الجهد الذي بذله في قطاع التأمين، بالذات تصحيح وضع بوليصة التأمين لصالح قائدي المركبات، البنك المركزي السعودي (ساما) يتحرك في مسار مهم: حماية (المستهلك المالي).. ويبدو أن هذا الأمر يتقدم أولويات البنك.
حين أعلنت ساما، قبل أسبوعين، عن إصدار قواعد احتساب معدل النسبة السنوي (APR)، أجزم أن هناك من قال: شكرا ساما، أن تأتيتي متأخراً خيراً من الغياب! طفرة الإقراض الشخصي الذي خرج من مجلاته التقليدية إلى مجالات واسعة للسلع والخدمات، فالبيع بالتقسيط أصبح متاحا في الجوالات والعدسات والعبايات والطرح، وربما يصل إلى الفول والطعمية والطحينية! وهذا الوضع إذا لم نتداركه سوف يؤدي إلى تنامي جبل الديون الشخصية!
توسع تطبيقات التجارة الرقمية، وتطور البنية الرقمية للخدمات المالية سهل عملية الإقراض. فقروض الأفراد المقدمة من البنوك التجارية في السعودية بنهاية عام 2022 تجاوزت (التريليون ريال) للمرة الأولى في تاريخها لتبلغ 1.02 تريليون ريال، مرتفعة 15 % عن عام 2021. قروض الأفراد تشمل القروض العقارية، الاستهلاكية، وبطاقات الائتمان. المزعج ارتفاع حصة القروض الاستهلاكية والتي تجاوزن 50 %. في نهاية الربع الثالث من عام 2023، القروض الاستهلاكية وصلت 470.94 مليار ريال.
لذا، نثمن ونقدر تحرك البنك المركزي لرفع كفاءة التنظيم والتشريع لاجل حماية المستهلك المالي من تنامي القروض، وهذه خطوة جريئة ونوعية لتأسيس مبادئ العدالة والشفافية في عمليات التمويل، وأيضا لأجل إيقاف حملات التسويق الخاطئة وغير الواضحة للمنتجات الماليه، والتي تُبنى على الاستدراج والتمويه، والاختراق النفسي للمستهلك. هنا يتم الإيحاء برخص التمويل عبر إخفاء التكاليف الحقيقية في الرسوم والعمولات. البنك المركزي أطلّق هذه المبادرة لتطوير ممارسات الإفصاح عن معدل النسبة السنوي للعملاء الأفراد عند حصولهم على المنتجات التمويلية، والأهم: (توحيد آلية) احتساب المعدل لمختلف المنتجات في قطاع التمويل.
وتضمنت القواعد عدد من الأحكام والالتزامات، أهمها: أحكام عامة تتعلق بطريقة احتساب معدل النسبة السنوي لمنتجات التمويل الممنوح للأفراد، وتحديد عدد من البنود الواجب الالتزام بها عند احتساب تكلفة التمويل، إضافة إلى متطلبات لآلية تطبيق حاسبة معدل النسبة السنوي ومراجعتها وتحديثها دوريًا من الجهات التمويلية.
هذه ستودي إلى حماية المواطن والمقيم، وايضا ستكون في صالح القطاع المصرفي والمالي على المدى البعيد، لانها تسعى إلى توحيد قواعد التنافس الشريف، والاهم حماية الأفراد والاقتصاد بشكل عام من مخاطر العجز عن السداد. وهذا سبق أن حدث مرات عديدة في الكثير من الدول التي تساهلت في الضوابط والتشريعات المنظمة للإقراض بأنواعه، وبالتالي اضطرت الحكومات إلى التدخل واستخدام الأموال العامة لإنقاذ الموقف.
بعد الأزمات المالية المتلاحقة تزداد القناعة بضرورة الحد من الإقراض السلبي الاستهلاكي - (يوصف بـ: المتوحش أو المفترس) - الذي يستخدم ممارسات الإقراض الخادعة أو غير العادلة التي تستغل المقترضين، وربما تدمر وضعهم المالي. هذا النوع طورته الممارسات المالية الرأسمالية المحدثة (النيوـ ليبرالية) التي انطلقت قبل ثلاثين عاماً كنموذج اقتصادي يطلق آليات السوق دون قيود أو تدخل من الدولة. تأثيرات هذا النموذج أصبحت الآن في غاية الوحشيّة بسبب النموُّ الضّخم والسريع لرأس المال بعد إطلاق العنان للأسواق الماليّة للعمل بحريّة مُطلَقة. هذه العقيدة أدت إلى توحش الرأسمالية مما دفع البنوك المركزية إلى التوسع في مراقبة ممارسات الإقراض السلبية لحماية المستهلكين من الممارسات غير العادلة والضارة في الصناعة المالية.
البنوك المركزية تقوم بدورها، مع الهيئات التنظيمية الأخرى، لوضع وإنفاذ القوانين واللوائح الهادفة لمنع الإقراض السلبي. وقد تتضمن هذه اللوائح مبادئ توجيهية بشأن الإقراض العادل، وحماية المستهلك، والكشف عن شروط القروض لضمان عدم تضليل المقترضين أو استغلالهم.
وربما يخدمنا على المدى البعيد أهمية قيام البنك المركزي بجمع وتحليل البيانات المتعلقة بأنشطة الإقراض لتحديد الاتجاهات والأنماط التي قد تشير إلى ممارسات الإقراض السلبي. يساعد تحليل البيانات هذا في الكشف عن مجالات الاهتمام المحتملة وتوجيه الإجراءات التنظيمية للوقاية من الاتجاه للاقتراض السلبي غير المنتج.
كذلك نحتاج جهود التوعية العامة والتعليم والمبادرات التثقيفية لتوعية المستهلكين بمخاطر الإقراض الجشع وكيفية التعرف على ممارسات الإقراض المسيئة وتجنبها. الأفراد يحتاجون تنويرهم لاتخاذ قرارات مستنيرة تحميهم من الإقراض الجشع. والأهم ضرورة إنفاذ العقوبات ضد المؤسسات المالية التي يتبين تورطها في الإقراض الجشع ولردع ومعاقبة ممارسات الإقراض غير العادلة والخادعة.
أيضا نتمنى اهتمام ساما بالأبحاث والدراسات حول ممارسات الإقراض السلبية حتى تستمر في تطوير السياسات والمبادئ التوجيهية لمنع سلوك الإقراض السلبي. هذا يساعدها لكي تبقى على علم بالاتجاهات الناشئة والمخاطر المتطورة، وتستطيع بالتالي تكييف القواعد التنظيمية وآليات الرقابة لمكافحة الإقراض السلبي بشكل فعال. ساما لها دور حيوي وطني لمراقبة ومعالجة ممارسات الإقراض السلبية لحماية المستهلكين من الأضرار المالية. فمن خلال تعزيز الشفافية والعدالة ومعايير الإقراض المسؤولة، سوف نتمكن من ايجاد بيئة مالية آمنة وشاملة لجميع المستهلكين.
وهنا نقدر الدور القيادي السريع للبنك المركزي للتدخل ووضع حماية الناس في أولوياته. المستهلك المالي أصبح مشكلة للحكومات. تطور منصات التمويل سهل الوصل إلى التمويل، وعزز هذا الوضع تحالف القطاع الخاص مع مؤسسات وشركات التمويل. الحكومات دورها مركزي لـ(حماية الناس من جهلهم) ومن ضعفهم أمام الحجات الآنية الاستهلاكية.
ضوابط البنك المركزي هذه ضرورية، ونتمنى أن تتبعها أمور أخرى مثل تعظيم مساهمة البنوك والمؤسسات المالية في المسؤولية الاجتماعية، والتدريب والتأهيل للقطاع المصرفي، وأيضا المساهمة في التنمية البشرية بشكل عام. أيضا ساما عليها مسؤولية رفع كفاءة الرقابة على الاحتيال المالي المتنامي، وهذا يعد من التحديات الكبرى للحكومات بعد تطور وتنوع أساليب الاحتيال.