حسن اليمني
ربما يرى البعض أن المقاومة الفلسطينية أخطأت في صولتها فجر السابع من أكتوبر بما لحق قطاع غزة وشعبها من دمار وقتل وتشريد قاس، لكن متى كان التحرير بلا أثمان مؤلمة؟
صحيح أن طموح العملية الجريئة لم يصل إلى حد تحرير الأرض، ولكن كان لتحرير ما هو أغلى كما هي الأرض، وأقصد الإنسان، أي الأسرى في سجون الكيان من رجال ونساء وأطفال، وقد يرى البعض أيضاً أن هذا المبرر غير كاف ولا يوازي ما تتعرض له غزة اليوم، وبمعنى أنه كان يمكن أن تكون هناك عملية أسر لجند من الكيان بشكل نظيف، يؤدي الغرض ولا يصل بالتصعيد لحرب إبادة كما يحدث الآن، وبالنتيجة فإن العملية كانت ستكون أسهل وأكثر إتقاناً وذكاء، وستكون عملية بطولية نظيفة، ولها وجاهتها أمام الأعداء قبل الأصدقاء، وستكون مواجهتها بحرب أمر مستبعد وغير منطقي بما يلجم العدو، ويخرس آلته الحربية، طالما انحصرت العملية في نطاق محدد، وغاية محددة تحرج الكيان وحلفاءه، وبنفس الوقت تظهر قضية الأسرى في سجون الاحتلال إلى السطح والاهتمام.
وصحيح أيضاً أن قولاً مثل ذلك سهل لمن لا يستشعر القهر والغبن في وجدان من يعيش تحت الاحتلال والحصار والبؤس والذل والهوان فوق أرضه، يساق بسياط الاحتلال وقهره وظلمه، وقد حانت له الفرصة لإضفاء الغليل والانتقام وهو يحمل السلاح ويرى ترف عيش المستوطنين الذين يحاصرونه ويغلقون عليه البر والبحر والجو، ولو كان بيدهم منع الهواء ما تأخروا، فمن يلوم المقهور في قاهره وقد تمكن منه، كيف يمكن لجم الغضب في النفوس وقد حانت لها فرص الانتقام، وكيف يمكن ضبط المشاعر وبراكين القهر في الصدور وقد تهيأت الفرصة لتفجير الغضب.
نحن نعلم أن الغاية والهدف كانت لأسر أكبر عدد ممكن، ليس رغبة في تحمل تبعات الأسر من مخاطر، ولكن لامتلاك قوة ضغط لتحرير الأسرى الفلسطينيين، والكل يعلم مهما كان موقعه مع أو ضد، أن مثل هذا العمل يعد بطولياً ونبيلاً، ولا يستدعي حرب إبادة وتدمير بما تحمله من كلفة وأثمان تحملها وتسويقها أمر صعب، وخاصة لكيان هش يؤمن بخاصية عنصرية تميزه عن غيره، وبالتالي ربما وجد اللائم والمعاتب منطقاً يحاج به المقاومة الفلسطينية حين تجاوزت العملية إلى القتل والتدمير واحتجاز مدنيين أطفال ونساء كبيرات في السن، وزادها الكيان بعمليات قذرة من قبل عساكره بقتل أعداد كثيرة من المدنيين الصهاينة، وربما كما قيل عمليات اغتصاب وسرقات، وألصقها بالمقاومة ليلوث العمل الشجاع بشكل مخادع مقصود، أو ربما غير مقصود بفعل الصدمة والمفاجأة، وأحسب أن كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة (حماس) كانت حريصة على نظافة العملية، بيد أن الاقتحام الذي أتاح للحركات المقاومة الأخرى وبعض المدنيين المقهورين تجاوز حد ضبط العملية، وربما أضعف العمل البطولي النبيل والشجاع، وحولها إلى إعلان حرب، وهو ما حدث في النهاية، وأوصل الحال فعلاً إلى حرب إبادة وتدمير وجراءة أو وقاحة من دول الغرب في دعم الكيان، والوقوف في صفه بلا مواربة، متجاوزين في ذلك النظام والقانون الدولي بشكل سافر، وتحد مخجل ومحرج.
وهناك احتمال آخر في أن صولة فجر السابع من أكتوبر كانت هبة تحررية بنيت على احتمالات وتوقعات عاطفية مثل انفجار في الضفة الغربية، وداخل حدود 1948 مع دخول حزب الله ومليشيات عراقية ويمنية وسورية تابعة لإيران، وأيضاً ربما دخول إيران من خلفهم، وقد نزيد التوقعات العاطفية فنقول ودخول تركيا أيضاً، لتكون العملية شرارة تحرير للأرض والإنسان، لكن الذي حدث أن كل هذه الاحتمالات والتوقعات ظهر أنها أمان أو أحلام خيبت الظنون والتوقعات، وانجلى الموقف بمواجهة مصيرية مع الكيان المحتل دون دعم أو إسناد سوى خطابات وشعارات وتبرؤ من العملية، كما فعل نصر الله في خطابه الأول الذي تم التحشيد له بدعايات انتهت بالتبرؤ من العملية، وإعلان الالتزام بالمداعبة عن بعد مع قوات الكيان المحتشدة شمال فلسطين.
الواقع أن أخطاء عديدة وكثيرة شابت عملية السابع من أكتوبر، لعل أهمها عدم وضوح الرسم الصحيح الخادم لتحقيق الغاية والهدف، ما أدى إلى شبه فوضى في خيوط العملية التكتيكية، أدت إلى ترجرج البعد الاستراتيجي الموصل لتحقيق الهدف والغاية، أو بأقل الأحوال زاد كلفة وثمن تحقيق الهدف، والغاية إن قلنا تحرير الأسرى، والأمر الثاني ظهور خذلان التوقعات والاحتمالات، مما زاد في صعوبة المواجهة، وأطفأ شرارة التحرير، إن عدنا للرغبات والأماني، وهكذا تحولت العملية إلى مناشدات لإدخال الغذاء والدواء والماء، ووقف إطلاق النار، دون أن يستمع لا قريب ولا بعيد لشيء من هذه المناشدات إلا قليل القليل، مع انتظار الكثير لنهاية تقضي على المقاومة بشكل تام، حتى لا يصل الأمر إلى نزوح وتهجير ونكبة جديدة.
أعرف أنه من الصعب على العاطفة أن تقبل كشفاً عقلانياً مجرداً، وخاصة أن ما نشاهده من همجية فاشية إجرامية، لا ترعى إلا ولا ذمة، وتصب حمم أعتى الأسلحة على سكان مدن متلاصقة مكتظة بلا رحمة ولا هوادة، دون معين أو سند على أعين العالم كله، قريباً وبعيداً، بكل سطوة ووقاحة، غير أن هذه هي عاقبة الأخطاء الخارجة عن الإرادة والرسم والتخطيط، مضاف إلى خذلان موجع هو قدر محتم أو امتحان يزيد صلابة الطموح قوة ومتانة، كخطوة جريئة تقرب فجر يوم التحرير، ولعلها تحقق هدفها المعلن بتحرير كل الأسرى، وتخرجهم من سجون الاحتلال، بما يصل بها إلى تحقيق النجاح، وإن دفعت في ذلك ثمناً باهظاً، فإنها لم تصل إلى الثمن الذي دفعته ثورة المليون شهيد في الجزائر، ولا حاجة للتذكير بفيتنام وأفغانستان اللتين تعاقب عليهما الاحتلال والاستعمار بشكل متوال من دول عظمى، ودفعت أغلى ما تملك لتتحرر ونجحت.