د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت عن خصخصة التعليم في مقالة الأسبوع الماضي وراسلني عدد من الفضلاء برسائل جميلة استفدت منها، وجل ما كان منها متحفظاً على دعوتي في المقالة بالتريث في أمر الخصخصة ذهب به الفكر أني ضد خصخصة المجالات اللوجستية أو العمليات الخدمية للتعليم مثل صيانة المباني والأجهزة مثلاً أو إدارة الموارد البشرية، وهذا لم يكن قصدي ولا مذهبي، بل تضمنت المقالة إشارة إلى ذلك وأنه مما لا بأس به، بيد أن مقالتي تستهدف الإدارة التربوية للعمل التربوي، إدارة العمليات المرتبطة بالصف المدرسي وأنشطته: التدريس، التقييم، الإشراف، التطوير، التدريب وما إلى ذلك. فهذه كلها أجد أن الخصخصة فيها لا تقدم بالضرورة حلاً للمشكلة النوعية، ولكي أقرب المعنى فقد أستعير مثال خصخصة المجال الصحي، حيث أراه ملائماً وممكناً والسبب أن ذلك المجال لا يشكو من علل في الجودة النوعية للعمل الطبي ذاته وإنما في إدارة عملياته، المواعيد وتحسينات المباني وتوفر الأجهزة وما إلى ذلك. أطباؤنا السعوديون يضرب بهم المثل -ولله الحمد - وتفوقوا بشكل مميز على نظرائهم من الأطباء غير السعوديين العاملين معهم، بل حتى في الخارج. والفضل -بعد الله - يعود إلى جانبين مهمين الأول جدية كليات الطب في المملكة؛ فلا تمنح الشهادة إلا لمن يستحقها، سواء في مستوى البكالوريوس أو الزمالة (سابقاً)، والثاني هو هيئة التخصصات الصحية والجهود الرائعة في تطبيق أنظمة الاعتماد منذ وقت مبكر، حيث ضاعف ذلك من جودة مخرجات الجامعات وقدم لها فرصة للتطور والنبوغ. ومن هذا المنطلق فإن خصخصة المجال الصحي لا مقارنة لها بما نناقشه في التعليم، حيث إن وضع المستوى النوعي للمعلم السعودي لا يشابه أبداً وضع المستوى النوعي للطبيب السعودي، كما أن الخبرات الأعلى من مرتبة معلم (مشرف تربوي - قيادات وسطى وعليا) لا تحمل نفس مستوى الجودة (في التعليم) التي يحملها كبار خبراء الطب السعوديين (في المجال الطبي)، ومن هذه المعطيات فإن تطوير التعليم (في وضعه الحالي دون خصخصة) يشكو من نقص القيادات والخبرات على المستوى المركزي، فكيف به لو قسم هنا وهناك وأصبحت اللا مركزية المصاحبة للخصخصة وسيلة لظهور اجتهادات غريبة وغير مهضومة مثلاً.
أحترم بكل ثقة الرأي الآخر الذي يقول دع القافلة تسير ولنطبق مبادئ جديدة (مثل اللا مركزية أو الخصخصة) وسوف يتعلم الناس في الميدان من بعضهم ويخلق التنافس بين القطاعات الفرعية فينهض التعليم بهذه الطريقة، وهذه وجهة نظر تحترم لكني لا أتبناها بالضرورة لأن المنطق الذي أنطلق منه أن أي تغيير هو مربك disrupting ويقول علماء التغيير إنه يربك السوق فيحدث نزول في مستوى السوق لصالح التغيير أو الابتكار الجديد والذي أربك السوق، ومشكلتنا في هذه المقاربة أن السوق هنا هي المجتمع الذي يستهدفه صاحب التغيير ذاته وليس شيئاً آخر. لذلك بقاء كل شيء على وضعه وصرف الطاقة في تحسين جودة المستوى النوعي للأفراد والنهوض بهم وكذلك بذل جهود مضاعفة لتحسين ثقافة العمل وممارساته، كل ذلك هو ما ينهض بالتعليم ويحتاج إليه حتى لو لم تتطور العمليات اللوجستية والخدمية.