خالد بن حمد المالك
مع كل يوم قبل أن يتم بدء سريان التوصل إلى الهدنة قدم الفلسطينيون عشرات الشهداء بتضحيات لا مثيل لها، مقاومين اجتياحاً إسرائيلياً لديارهم, وعدواناً تستخدم فيه إسرائيل كل أنواع الأسلحة الفتاكة، وبغطاء أمريكي وأوروبي يسمح لها بهذه الجرائم والإبادة الجماعية، وكأنّ 13.300 شهيد بينهم 5.800 طفل و3.300 امرأة بالإضافة إلى 6500 مفقود و31.000 جريح لا تكفي، وأن المطلوب أكثر من ذلك بكثير.
* *
وحين تقوم إسرائيل بعدم استثناء المدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات من عدوانها الغاشم، فهي متعودة على اختلاق القصص والروايات الكاذبة عن وجود عناصر من حماس والجهاد بتلك الأماكن، وأنها تستخدم كثكنات عسكرية لهم، وتزيد على ذلك باحتمال وجود بعض الرهائن والأنفاق والأسلحة فيها، ليسرّع البيت الأبيض - ضمن دعمه للمحتل- بالقول بأن لديه معلومات بأن مستشفى الشفا كان يستخدم لأغراض عسكرية، وهي معلومات كاذبة مصدرها إسرائيل، ويأتي تصريح البيت الأبيض ليُشرّع لإسرائيل الحق في اجتياح المستشفى الإندونيسي، ويقتل ويعبث فيه كما فعل في مستشفى الشفا.
* *
وضمن ما اعتاد عليه الرئيس الأمريكي بايدن، فإن كل ما يهمه هو أن يتم تحرير الأسرى الموجودين في غزة، وهو هنا لا يتحدث عن الأسرى الفلسطينيين في إسرائيل، مع أن اتفاق إطلاق الأسرى يشمل الأسرى في إسرائيل وغزة الفلسطينية على حدٍّ سواء، ومثل ذلك فحين يتحدث عن آلاف الشهداء الفلسطينيين فهو ينكر صحة هذه الأعداد التي تعلن عنها وزارة الصحة في حكومة غزة، بهدف تحسين صورة جرائم إسرائيل ضد المدنيين في هذه الحرب، مضيفاً بأن إسرائيل لا ترغب مَحْوَ غزة من الخريطة، ربما لتبقيها جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل، وإن لم يقل جو بايدن صراحة بذلك.
* *
وإسرائيل لا تتحدث إلا عن حوالي سبعين قتيلاً من قواتها ما بين ضابط وجندي منذ بدء العدوان البري على غزة، لكن هذا الرقم المتواضع يدخل ضمن التعتيم الإسرائيلي المعتاد عن حقيقة خسائرها البشرية الموجعة، فيما يرى المراقبون والقريبون من سير المعارك أن حجم الخسائر البشرية الإسرائيلية أكثر بكثير مما تُفصح عنه تل أبيب، ربما لكي لا يثور الشارع الإسرائيلي الذي يقف ضد هذه الحرب، بتأثير مطالبة أهالي الأسرى الإسرائيليين حكومتهم بتحرير أسراهم بالتفاهم مع حماس عبر الوسطاء على تبادل الأسرى، وليس بالقوة العسكرية المفرطة التي فشلت في تحريرهم.
* *
مع هذا فالمقاومة الفلسطينية في غزة ظلت تدفع بالمزيد من الشهداء والجرحى، ويتعرض القطاع للعدوان الهائل على مسمع من العالم الذي لا يفعل شيئاً، وفي المقابل فإن العناصر الفلسطينية تكبد العدو الإسرائيلي الكثير من الخسائر البشرية، وتصل إلى عمق إسرائيل بصواريخها وطائراتها المسيرة، وهو ما لم تعتد عليه إسرائيل في كل حروبها على مدى 75 عاماً.
* *
وإن فكّ الحصار عن غزة خلال الهدنة، والسماح بدخول الغذاء والدواء والوقود والماء لإنقاذ حياة المدنيين ليس مجال مزايدة، أو مساومة، لتحرير الأسرى الإسرائيليين لدى حماس والجهاد، فالأسرى لدى إسرائيل مقابل الأسرى لدى الفلسطينيين، وهذا أسهل الطرق لتفريغ سجون الاحتلال من حوالي ثمانية آلاف سجين - كانوا خمسة آلاف قبل السابع من أكتوبر- لا كما تطالب أمريكا بالتوافق مع إسرائيل بأن إيقاف الحرب ودخول المواد مرهون بإطلاق ما تسميهم واشنطن بالمحتجزين لدى حماس، فإذا بها تتراجع وتقبل بتبادل الأسرى، نتيجة الفشل في تحريرهم بالقوة العسكرية.
* *
وإسرائيل لا تكتفي بالقوة العسكرية المفرطة في عدوانها على غزة، وإنما ترى في الوقود سلاح حرب، والمؤكد أنها ترى أيضاً بالمواد الغذائية والصحية كذلك، ومن هناك فقد كان سماحها - مثلاً - بدخول كمية محدودة من الوقود قبل إبرام صفقة الهدنة، إنما هو لتجنب الخطر البيئي، ولمنع انتشار الأمراض من وصولها إلى إسرائيل، مع حرمان شمال غزة منه، حتى لا يُستخدم بما ينفع حماس في تشغيل الكهرباء وفق ما صرح به رئيس وزراء إسرائيل، لكن الأمر سوف يتغير مع الاتفاق على الهدنة.
* *
وهكذا هي المعايير المزدوجة، فلولاها لما كان لإسرائيل أن تفعل كل هذا، ولكنه الدعم الأمريكي العسكري, والسياسي, والمالي لإسرائيل في عدوانها على المدنيين الفلسطينيين وهو من جعل الموقف الإسرائيلي على هذا النحو من استمرار القتل المباح لها لقتل كل من يتحرك داخل القطاع، وأنه لا أمن ولا أمان له حتى ولو كان في مدرسة أو مستشفى أو مسجد أو كنيسة، فإسرائيل خارج الالتزام بالقوانين، ولا تشملها التشريعات الدولية، والمدعي العام في محكمة الجنايات الدولية لن يستطيع إجبار إسرائيل للمثول أمام المحكمة طالما أنها محمية بأمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها.