د. عبدالرحمن بن محمد الغزي
هذه قرية آبائي وأهلي.. قرية المنسف أو عقلة ابن غزي.
ورد لها أسماء عدة:
فعند الحاضرة (المنسف) وعند البادية (عقلة بن غزي) نسبة إلى مؤسسها وباعثها (جار الله بن حمد بن سبهان ابن غزي) كما في وثيقة أشهر كتاب الوثائق في محافظة الزلفي الشيخ: سلمان بن عبدالمحسن السلمان المتوفى سنة 1308هـ والمنقولة بخط يده من وثيقة كتبت في سنة 1276هـ، حيث ذكر عدداً من أهل الزلفي منهم (جار الله بن حمد بن سبهان بن غزي) مؤسس عقلة المنسف ومرفق صورتها.
واختلف في تاريخ تأسيسها، يروي والدي -رحمه الله- أن تأسيس المنسف في سنة 1115هـ. ويروي غيره أن تأسيس قرية المنسف قبل ذلك، ومنهم من يروي أن تأسيسها بعد ذلك.. الخ والراجح -والله أعلم- ما ذكره والدي -رحمه الله-.
ويسميها العالم المعلم عبدالله بن خميس بـ(قوقاز نجد) لجمالها وجمال طبيعتها.
تقع قرية (المنسف) أو عقلة بن غزي إلى الشمال من محافظة الزلفي على بعد 30 كيلومتراً تقريباً، وسط نفود الثويرات أو النفود الكبير، يحدها من الغرب: قرية منسية، ومن الشرق: مزرعة عذبة لعذوبة مائها، تعود لأحد أحفاد بن غزي.
ومن الشمال: قرية الذويخ الشمري، واسمها العقيلة، ومن الجنوب تل من الرمال مرتفع جداً، واسمه مرقب ابن غزي، يشاهد منه القادم إلى القرية من على بعد.
تشتهر قرية المنسف أو عقلة بن غزي بزراعة النخيل المتنوعة والأشجار المثمرة، كما تشتهر بوفرة الماء العذب وبقربه وحلاوته، حيث لا يتجاوز عمق البئر اليدوية المترين إلى أربعة أمتار.
زرت قرية (المنسف) أو عقلة بن غزي قريباً ورأيت دورنا في الجانب الغربي من القرية وقد انمحت رسومها، وطمست معالمها وأعلامها، وخفيت دورها التي كنا ندرس فيها القرآن الكريم مع أبناء عمي وأبناء جيراننا، وغيرها البلى، وصارت رمال مجدبة بعد العمران، وفيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب متقطعة متصدعة بعد الحسن، ورمالاً متحركة بعد السكون، وبعد الأهل والجيران، وأصبحت مأوى للحيوانات السائبة، ومعازف للغيدان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش بعد رجال كالليوث، وخرائد كالدمى، تفيض لديهم النعم، والآن تبدد شملهم فصاروا في الدنيا (أيادي سبأ) مثلاً يضرب للتفرق والتشتت، فكانت تلك البيوت المنمقة، والمقاصير الواسعة المحصنة المزينة التي كانت تشرق إشراقة الشمس، يجلو الهموم حسن منظرها قبل أن يشملها الخراب، ويعمها الهدم، وأصبحت كأفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقبها، وتخبرك عما يصير إليه كل ما تراه قائماً فيها، وتزهد في طلبها بعد أن زهدت في تركها، وتذكرت أيام شبابي بها ولذاتي فيها، وشهور وسنين صباي لديها، مع أولاد جيران لنا، ومثلت لنفسي كون بعض الجيران والأهل تحت الثرى، والأحياء منهم في النواحي البعيدة فرقّتهم يد الجلاء، ومزقتهم أكف النوى، وخُيّل إلى بصري بقاء تلك الأبنية، بعد ما علمته من حسنها ونضارتها، وإلى سمعي صوت أبي وعمي، وصوت الثاغية والراغية، والخيل المسومة، وتذكرت بيوتنا وبيوت الجيران، وخلاء تلك الأبنية والأزقة بعد تضايقها بأهلها، وكانت عقلة بن غزي ليلها كنهارها في انتشار ساكنيها والتقاء أهلها بعضهم ببعض، أما الآن فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدوء والاستيحاش، فأبكى عيني، وأوجع قلبي، وقرع صفاء كبدي، وزاد في بلاء لبي، وولّد عندي الحنين والاهتياج والتذكر. وأخذت أردد:
سلام على دار رحلنا وغودرت
خلاء من الأهلين موحشة قفر
هذه هي عقلة بن غزي (المنسف) اسماً وفعلاً فيها ولها عاشق دنف، أمرضني حبها وعشقها، أبعدتني عنها ظروف الحياة، فتمثلت قول الشاعر:
تولى الأمس، والغد لست أدري
أأدركه، ففيما ذا اغتنامي
فيا قرية الأمس والهدوء والخير. يا قرية ولدتُ فيها ونشأت بها بين أهلي من الأعمام والجيران، فنظري شاخص إليك، وقلبي يذوب عليك، ودمعي مصبوب على فراقك.
إن الحمام يحزن عند فراق ألفه، ولو كان وجده كوجدي، لانبرى ورقّ له الشجرُ والحجر، وانبعث يبكي معي رحمة بي.
والصبر يحمد في المواطن كلها. إلا على البعد فإنه مذموم، فنساؤها متفرغات لمساعدة أزواجهن في العمل، وتربية الأولاد، والرجال مقتسمون في العمل والكسب وطلب العلم، ومكابدة الأسفار والصيد، وتحمل المخاوف. وعمارة الأرض. جالستُ الرجال وأنا في الشباب، وحين تفيَّل وجهي وهم علموني القرآن ورووا لي كثيراً من الأشعار ودربوني على الخط، ولم يكن وكدي وإعمال ذهني منذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جداً إلا تعرُّف أسباب الرجال، والبحث عن أخبارهم، وتحصيل ذلك.
وأنا لا أنسى شيئاً مما أرى وأسمعه منهم. وأصل ذلك رغبة شديدة طُبعتُ عليها، وحسن ظن في وجهتين فُطِرتُ عليهما، فأشرفت من أخبارهم على غير قليل.
وذلك لأن كل ذنب فهو يتوب عنه صاحبه، وكل ذام فقد يمكن الاستتار به والتوبة منه، حاشى حب قريتي فلا سبيل إلى الرجعة عنه ولا إلى كتمانه حيث كان.
فحب قرية آبائي أصل كل راحة وجامع كل أنس وجالب لرضا الله، فحب الوطن من الخلال التي يُطبع عليها المؤمن.
المنسف، أو عقلة بن غزي هي عندي مثل بلدة سرقسطه: بلدة مشهورة بالأندلس ذات فواكه عذبة كما في معجم البلدان: 3/ 212 نظرتُ لها نظرة منفرداً عن الناس فبكيت وقلت: في نفسي: علمي والله بما في السماء السابعة أقرب إلي مما أرغبه وهو السكن في قريتي حيث الحياة والأولاد. ولولا أني لم أقصد في كتابتي هذه الحديث عن حياتي في المنسف مما صح عندي لأوردت أشياء تحير اللبيب وتدهش العاقل ومن المكان من لا تصح إلفته إلا بعد طول مشاهدته وتمادي الأنس. وهذا الذي يدوم ويثبت.
ما عدا قريتي فأدخل فيها شوقاً وحباً، وأخرج منها كرهاً. وهذا يدل على لصوق حبها في قلبي ولم يحل منه أبداً.
فالرجل الحصيف قد طبع على حب بلده واستولى عليه، واستحوذ عليه، وألفه ألفة النفسِ الأملَ، وأوكد حبي لبلدي عامة وقريتنا خاصة بالأيمان المؤكدة المغلظة، مجاهراً بحب وطني مشغوفاً به، والمسلم يجعل دينه دليلاً له وسراجاً يستضيء به في حب وطنه، فحيثما سلك به سلك، وحيثما أوقفه وقف، فشارع الشريعة وباعث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومرتب الأوامر والنواهي أعلم بطريق الحق وأدرى بعواقب السلامة ومغبات النجاة من كل ناظر لنفسه بزعمه، وباحث بقياسه في ظنه.
فحب البلد حظ رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية عند الله. وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السني، والسرور الدائم ورحمة من الله عظيمة.
وإنه لشجىً يعتادني وهمّ لا ينفك عني، ولقد نغص تذكري ما مضى كل عيش استلذه، وإني لقتيل الهموم في أعداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا على فراق قرية آبائي وأهلي (عقلة ابن غزي) المنسف.
محبةُ صدقٍ لم تكن بنتَ ساعةٍ
وَرَيتْ حينَ ارتفاد زنادُها
ولا يظن ظان ولا يتوهم متوهم أني سليت عن قرتي بانتقالي منها إلى غيرها. ولكنها ظروف الحياة حيث حال (الجريض دون القريض). مثل يضرب للمعضلة تعرض فتشغل عن غيرها. راجع ذلك في مجمع الأمثال: 1/ 341، فالذي أحبه وتسكن إليه نفسي وتهواه زيارة المنسف والسكن فيه، فهل أظفر بذلك، وأتمكن منه حتى أشفي قلبي، كما تشفي قلب المحب زورته الحبيب.
ولا للأوبة بعد طول الغيبة أثر مثل تأثير حبي لقرية آبائي وأجدادي عقلة بن غزي.
جَرى الحبُّ منِّي مَجْرى النَفَسْ
وأعطيتُ عيني عِنانَ الْفُرَسْ
دعني أُخبركَ أني ما رويتُ قطٌ في حبِ قريتي ولا زادني إلا ظمأ، وهذا حكم من تداوى بدائه. وإن رفه عنه سريعاً، ولقد بلغتُ من التمكن في حب عقلة بن غزي أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى. فما وجدتني إلا مستزيداً. ولقد طال بي ذلك فما أحسستُ بآفة ولا أرهقتني فترة. ولقد ضمني مجلس مع بعض من كنتُ أحب، فلم يجُل في خاطري في فن من فنون الحب إلا وجدته مقصراً عن مرادي وغير شاف وجدي ولا قاض أقل حاجة من حاجاتي، في المنسف.
أعيش في المنسف ما حييت فإن أمتِ
سكنتَ شغاف القلب في ظُلم القبر
فلو أن المنسف تتكلم لطالت الصحبة بيننا واتصلت إلى وقت حلول الموت الذي لا مرد له ولا بد منه، هذا عطاء لم يحصل عليه أحد، وحاجة لم تفض لكل طالب، ولولا أن مع هذه الحال الإشفاق من بغتات المقادير المحكمة في غيب الله، من حلول فراق لم يكتسب واحترام منية في حالة الشباب أو ما أشبه ذلك، لقلت إنها حال بعيدة من كل آفة، وسليمة من كل داخلة.
فأنعم الناس عيشة رجل مسلم له زوجة مسلمة لهما كفاف من العيش وقد رضيت به ورضي بها.
قلت: ولو عرف القائل قرية المنسف لتمناها على ما ذكر.
وهل فيما وافق إعجاب المخلوقين، وجلا القلوب واستمال الحواس واستهوى النفوس، واستولى على الأهواء، واقتطع الألباب، واختلس العقول مستحسن يعدل إشفاق المحب على المنسف. ولقد شاهدتُ من هذا المعنى كثيراً، ورأيتُ عجباً ولذةً مخفية لا تقاومها لذة، وما رأيت أجلب للقلب ولا أغوص على حياته ولا أنفذ للمقاتل من رؤية قريتي. إني لفى أصعب حال في حب قريتي (المنسف) أو (عقلة بن غزي)، بقيت أتذكرها سنين كثيرة تزيد على خمسين سنة، مغموماً لا يهنئني شيء وجداً غيرها، فمن الخطأ العظيم أن تلومني في حب قرية آبائي وأجدادي، فإشغال النفس بالحقيقة لا يعذل فيه المرء. لأن الله لا يلوم المرء على محبة ما لا يملك ترك محبته. دخلت يوماً على أبتي -رحمه الله- فوجدته مفكراً مهتماً، فسألته عمّا به، فتمنع ساعة، ثم قال: أي بني رأيتُ في نومي البارحة قريتنا (المنسف) أو (عقلة بن غزي) فاستيقظت وقد ذهب قلبي معها، وهمتُ بها، وإني لفي أصعب حال من حبها. ثم تابع حديثه قائلاً:
إنّا عَلىَ البعادِ والتَفَرُّق
لنَلتقي بالذّكر إنْ لم نَلتقِ
إن الأيام مولعة بتقريب من لا أحب وإبعاد من أحب، أفلا تغلط مرة فتبعد البغيض وتقرب وتدني المحبوب.
أغالبُ الشوقَ فيكِ إلا أن الشوق إليكِ يغلبني.
أذكر مرقب بن غزي وارتفاعه إلى السماء، ميل أو يزيد، تتشابه الطيور الجارحة، ضَرَبَ به أهلُ القرية وما حولها مثلاً. يقال: أعلى من مرقب بن غزي.
يا قريتي: لولاكِ لكان كل بلد بلدي وكل أهل أهلي. فأنت جميع الدنيا إلي والتي انصبت عليها آمالي، فإذا حاولت الذهاب منكِ كان إليك، فأنت دنياي فمالي ذهاب عنكِ إلا لكِ. فأنت لبي وسواك قلبي، واللب أشرف من القلب، فأفتخر بكوني منكِ. فأنت كالبدر يستغنى بنوره عن الكواكب. أو كالغرة في وجه الفرس.
وإني أعرف من يرى أن الموت عنده أحلى من هجر بلده وتركه. فهذا عقوق وغدر وقبيح فعل يحرمه الشرع والعقل.
فالمسلم عليه أن يحفظ عهد بلده ويحافظ عليه في علانيته وسريرته، ويطوي شره وينشر خيره ويغطي على عيوبه ويحسنه. ولا يستبين قبح الفعل لأهله.
ولقد منحني الله من الوفاء لبلادي عامة ولقريتي خاصة، ووهبني من المحافظة على قريتي وبلادي حظًّا أنا له شاكر وحامد، ومنه مستمد ومستزيد، وما شيء أثقل علي من التقصير في حق قريتي. والحمد لله على ذلك كثيراً وبالوفاء أفتخر. لأن الوفاء لبلادي وقريتي من سري النعوت ونبيل الصفات:
قليلُ وفاءِ مَن يهوَى يَجلُّ
وَعُظمْ وُفَاءِ من يَهوىَ يَقِلُ
هذه المنسف أو عقلة بن غزي تعدل عندي (سبتة) بلدة مشهورة محصنة من بلاد المغرب، تقابل جزيرة الأندلس. ذكره في معجم البلدان: 3-183.
يحيق من الهم والغم ما يكاد يأتي علي حين أتأخر عن زيارة قريتي. ولو حال دون زيارتها شوك القتاد، مثل يضرب للأمر دونه مانع.
لقد هام قلبي بمثناءٍ عني، فقاسيتُ الوجد نحوها وهي قريتي.
وماذا على الشمْسِ المنيرةِ بالضُّحى
إذا قَصُرتْ عنها ضِعافُ البصائِر
ومن حميد الغرائز وكريم الشيم حب بلدك والوفاء له.
أساعةُ توْديعك أمْ ساعةُ الحشرِ
وليلة بيني منك أمْ ليلة النشرِ
إن فرحة الزيارة لقريتي قرية آبائي وسرور الرضا بهذه الزيارة يعدل ما مضى. فإن رؤية قريتي بعد انقطاع لذة في القلب لا تعد لها لذة، وموقفاً من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا، وهل شاهد مشاهد أو رأت عين أو قام في فكر ألذُّ وأشهى من رؤية قريتك، واجتمعت فيها بمن تحب بعد عتاب وقع من المحب وطال ذلك قليلاً. وابتدأت في الاعتذار لقريتي مما سلف. فمرة أعتذر، ومرة أرد بالعفو واستدعي المغفرة وأقر بالذنب. فينجلي الحديث بيني وبينها عن قبول عذري وقبول قولي، ووقع الجواب منها بنعم وذنبك مغفور، وختمنا أمرنا بالتعهد بالوصال فقسط العتاب من قريتي وتفرقنا على ذلك.
فالمنسف أو عقلة بن غزي تتقاصر دونه الصفات وتتلكن بتحديد جماله الألسن، فما رأيت قرية تعدل قريتي.
يا قرية آبائي وأجدادي وجيراني إن حقوقك علي أكثر من أن أقدر على القيام بها، ومن ذا الذي يرضيك بقضاء حقوقك غير الذي تسامحينه وتتساهلين معه، لو كنتِ بشراً لم أجهل قدرك ونسبك وأصلك، فإذا زرتك يا قريتي ترنحت وتمايلت في مشيتي وزدتني في حسني، فحبك وغلاكِ في لبي تعصف فيه كما تعصف ريح الشمال في شجر الشيح، أو عود الورد، لأنك غنّاء أي كثيرة النخل والشجر والعشب.
فقلت له يا ذئب هل لك من أخ
يواسي بلا من عليك ولا بخل
فقال هداك الله للرشد إنما
دعوت لما لم يأته سبع قبلي
وإني لأعجب من كل من يدعي أنه يألف المكان من أول زيارة واحدة، ولا أكاد أصدقه إلا في مكة والمدينة، أما ما عدا ذلك فألف المكان من أول زيارة، فضرب من ضروب التمني، وما يكون في ظني متمكناً من صميم الفؤاد نافذاً في حجاب القلب لاصقاً في الأحشاء، إلا زيارة قرية المنسف أو عقلة بن غزي، وإن كان لأول مرة، فما نسيت ودًّا لهذه القرية قط، وإن حنيني إلى عهد تقدم فيها بين أهلي وجيراني من آل فراج، وآل قبلان، وآل جاسر، ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء، وقد استراح من لم تكن هذه صفته.
ومن الجيران (آل فراج) ومنهم محمد بن عبدالرحمن ابن جوير الفراج ووالدته: سلمى بنت عبدالعزيز بن حمد بن جارالله الأول مؤسس عقلة المنسف.
يقول عنه والدي -رحمهم الله-: ما سمعت ولا رأيت ألحن منه في الحجة في الخصومة، ويقول عنه عمي جارالله: ما رأيت مثله في الحكمة والهيبة، في الخصومة أو غيرها.
ومن الجيران آل جاسر فهم من ذوي الأرحام وأولاد عم، ومنهم آل قبلان وهم من ذوي الأرحام.
وقد تولى إمامة جامع القرية جاسر بن محمد الجاسر، ثم جاء من بعده أحمد الحبيشي، ثم محمد بن جارالله الثاني، وأخذ مدة تقدر بخمس وخمسين سنة، ثم خلفه ابنه غزي بن محمد ولا يزال.
وما أجمل أن يكون بين أهل القرية من التراحم والتآلف والرحم من الحب المطبوع بحسن الخلق لثقة كل واحد منهم بمحبة صاحبه.
كيف أذمُّ النوى وأظلمها
وكل أخلاق من أُحب نوى
قد كان يكفي هوى أضيق به
فكيف إذا حل بي نوى وهوى
فما رأيت أجلب للقلوب ولا أغوص على حباتها، ولا أنفذ للمقاتل من هذا الفعل. وإن للجيران المتحابين في الوصل إذا وقع من أحد أبنائهم خطأ في الاعتذار ما أعجز أهل العقول.
تغنى في قرية المنسف أو عقلة بن غزي عدد من الشعراء وكتب عنها عدد من الكتاب، فمن الشعراء مؤسسها، حيث قال في قصيدته المشهورة:
يا غرس يا اللي بالنفود
فوقه مزبير العدام
غرسٍ مدابيح رجود
حلو النمازين الطعام
والقصيدة طويلة.
وقال الشاعر الكبير: (الزغيبي الحربي) يتوجد على المنسف وأهله.
يا بعد رجم زمى من دون أهل صينه
غير النفودين والضلعان صماني
وصينه التي ذكرها الشاعر اختلف فيها. فقيل إنها زوجة الشاعر، وقيل إنها الصينية المعروفة التي ينقل بها الطعام إلى الضيوف لها ثلاث حلق حتى يسهل نقلها. والراجح -والله أعلم- إنها الصينية المعروفة التي يقدم بها الطعام للضيوف. رواه أبتي رحمه الله.
وقد توارثها الأبناء والأحفاد. فورثها (حمد) ابن مؤسس المنسف، ثم ورثها أحد أحفاد راع المنسف وهو محمد بن جارالله الثاني، وبعد وفاته ورثها غزي بن محمد إمام وخطيب جامع المنسف ولا تزال عنده.
ويقول الشاعر العلم المعلم فلاح بن مبرد الحميداني المطيري في أحد أحفاد راع المنسف:
يا راعي المنسف نصيتك على الطيب
والطيب عسرا لا على فاعلينه
عسر على كل المخاليق وتعيب
إلا على عشاقته قادرينه
والقصيدة طويلة وقد ذكر الشاعر اسم الصينية فيها.
ويقول معرِّف قرية البتيراء الواقعة جنوب الأرطاوية في قصيدة طويلة يثني بها على أحد أحفاد مؤسس عقلة ابن غزي:
جدك حمد شحمّ نخلته مسيان
وعشى ضيوف من قصاها محدودة
فإذا عدم الأكل قدم مثل هذا ضرورة.
يا قريتي إن مما يريحني أن السماء تظلنا جميعاً والأرض تقلنا، ويحيط بنا الليل والنهار.
تمر علي الشمس مثل مرورها
به كل يوم يستنير جديدا
كأني أرى السواني أي الإبل يستقى عليها الماء من الدواليب، وأرى الثاغية من الغنم والراغبة من الإبل، فإذا تذكرت أيام سني الأولى، تصبرت وأظهرت التجلد على الماضي، وفي قلبي أشد لدغاً من وخز المخرز.
وبناءً على شفاعة الشيخ الأديب عبدالعزيز بن محمد بن غزي، قام صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بتجديد بناء وعمارة جامع المنسف القديم مع خدماته على تصميم يجمع بين التراث القديم والبناء الجديد، حتى أصبح حديث الناس، ويقصده الكثيرون من مصلين وزائرين ومتعجبين وداعين. لمن تسبب فيه وتكفل فيه.
انتهى ما تذكرته إيجابا لك، وتقمناً لمسرتك أي تحريها وتوخيها، واقتصرت في كتابتي هذه على الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلاً، وعلى أني قد أوردت حقائق يكتفى بها لئلا أخرج عن طريقة أهل المقالات ومذهبهم.
** **
- عضو مجلس القضاء ورئيس محاكم جازان سابقاً